"أُمّ!" دارين آرنوفسكي... رعب التكوين

شفيق طبارة
السبت   2017/11/04
يقدم أرنوفسكي، فكرة نشوء البشرية وفقا للكتاب المقدس
لا يتمحور فيلم "أُمّ" للمخرج دارين آرنوفسكي حول القصة الظاهرة أمامنا. ففي ثناياها الكثير من الاستعارات والرمزيات. ومن دون شك، هذا الفيلم هو أنضج أفلام ارنوفسكي. رعب نفسي مع مَشاهد مثيرة للقلق. خوف وانزعاج. فيلم غامض، يربكنا في أحداثه المبهمة ليصل بنا المخرج الى مَشاهده السوريالية. 

في منزل كبير ومعزول عن العالم الخارجي، تعيش الأم (جينيفر لورانس) مع زوجها الشاعر المعروف (خافيير بارديم). يأتيهما زائر غير متوقع، وهو رجل مسن (إد هاريس). يستقبلانه بعد أن يعبّر "الغريب" عن إعجابه بالشاعر، وسرعان ما يفرض نفسه ويستبيح المنزل. وفي اليوم التالي، تأتي زوجة المسن (ميشيل بفايفر)، وتبقى الى جانبه، بحيث لا تترد في طرح أسئلة شخصية على الأم والشاعر، خصوصاً تلك التي تتعلق بالإنجاب وغياب الأطفال. من هنا تنطلق سلسلة من الأحداث الغريبة والسوريالية التي تزعج الأم من جهة، والمُشاهد أيضاً. لكن رغم الفوضى التي تعم المنزل، يبقى الشاعر رحب الصدر، ولا يتردد في إدخال كل زائر.

للوهلة الأولى تبدو أحداث الفيلم متمحورة حول شاعر معروف ينتظر الإلهام من أي طرف، كي يعود الى الكتابة وشغفه المدفون. لكن، هل هذا ما يريد ارنوفسكي حقاً إظهاره؟ القصة تبدو سطحية، لكن الحكاية أعمق من علاقات شخصية ومخطوطات شعرية. إذ يعود بنا المخرج في "الأم!" الى الموضوعات الدينية، وأفكاره التي طرحها في أعمال سابقة.
 

لنبدأ بالشكل التجريدي للشخصيات، والتي لا تحمل أي اسم يعرّف عنها. هذا الأسلوب يؤكد على الدلالات الرمزية لعناصر القصة، والذي يجسد التأملات الوجودية، بالإضافة الى سرد الأحداث اللامنطقي والمبهم، ما يعطي انطباعاً بأن الفيلم ملخص عن سفر التكوين، أول أسفار التوراة، وجزء من التوراة العبرية، وأول اسفار العهد القديم لدى المسيحيين.

يقدم أرنوفسكي، فكرة نشوء البشرية وفقاً للكتاب المقدس في 120 دقيقة. "أُمّ!" ليس بالفيلم السهل. عمل ينتقد بشكل واضح خرق الخصوصية الفردية، والتدخل في الحياة الشخصية وما يترتب على ذلك من دمار وشتات، وما يرافقه من سرد استفزازي ونهايه صريحة قد تزعج الكثيرين. فيلم متطرف، شئنا أم أبينا. مثير للجدل، يستجلب قضايا محيرة ومهمة للإضاءة على "سر التكوين"، بحيث يعرض بشكل فوضوي وعميق، أموراً تمس الطبيعة البشرية، والدين، والكتب المقدسة، وفكرة الخالق والله. يعود الى الطبيعة التي تتمحور حول الأم، وكيفية تحقيق الانتصارات العظيمة للبشر وتكبد الخسارات الكبرى.

يبث المخرج رسائل يسهل إدراكها، لكن يصعب العثور على عناوينها العريضة. تفاصيل صغيرة تجرد الواقع، وتعالج بعمق مثير، قضية الوجود وقدرة "المتحكم" أو الخالق. فيلم حسي تجريدي. يضع المشاهد في دوامة من المشاعر المتناقضة ليبدأ بالتشويق النفسي، من دون إغفال الدراما المؤثرة. ففي خلال ساعتين، ننتقل الى لبّ القصة، بعد تعثرنا بالأحداث الغريبة وغير المألوفة.



عنصران أساسيان رافقا الفيلم، وساعدا على خلق جو الرعب والإضطراب. الأول، غياب الموسيقى التصويرية. إذ، يرتكز الفيلم على الحوارات والأصوات الصادرة من أثاث المنزل والعادات اليومية، كصرير الأحذية، فتح وإغلاق الأبواب، وقع الخطوات على الأرض، خرير المياه من المزراب. أما الثاني، فيظهر من خلال التصوير السينمائي المندفع، أي اللقطات القريبة من وجوه الشخصيات، لمضاعفة الإحساس بالألم. وحركة الكاميرا المتنقلة وكأنها عين الشخصية، كما لم تفارق الكاميرا وجه الأم إلا نادراً، وهو ما يقرّب المُشاهد من مشاعر وانفعالات الشخصية والتي تتسم بالإنزاعج المستمر والمعاناة.

تمكنت لورانس من تأدية دور الأم، الحزينة والمتألمة، من خلال تعابير وجهها الشاحب ونبرة صوتها المترددة والخافتة. أما باردم، فنقل لنا الشخصية الغامضة، والتائهة أحياناً، للشاعر المشهور. فهو الزوج البارد، والمستفز والمحبوب في الوقت نفسه.

مما لا شك فيه أن فيلم "الأم!" مظلم للغاية. وتختلف رسالته من مُشاهد الى آخر، نظراً لخلفيته وأفكاره وكيفية تقبله للأحداث. يحاول آرنوفسكي معالجة مواضيع حساسة بطريقة نافرة وصادمة، معتمداً أسلوب الاستفزاز. إذا يطرح المواضيع المتعلقة بالإنسان، منتقداً "الهوس" البشري بالكَمال، والتأليه والعبادة، وتدمير الكون. فيلم يزيد الشكوك والإرباك، وينتهي مع بداية تحفز على طلب المزيد.

(*) بدأ عرضه في الصالات اللبنانية قبل أيام