"جريمة في قطار الشرق".. بدايات كثيرة ونهاية واحدة

شادي لويس
الجمعة   2017/11/24
يذهب الفيلم، في تنميطاته العنصرية، أبعد مما ذهبت إليه رواية أغاثا كريستي
"أرجو أن نكون فعلنا حسناً، بحجز فندق لك في الجانب الأوروبي، لا الآسيوي، من إستنبول" 
يرد المحقق، هيريكول بوارو، في سخرية، على مجاملة الضابط البريطاني الموكلة إليه مهمة توديعه: "ليس لدي تعصب تجاه أي من القارتين". ربما يتعمد المخرج الأميركي، سيدني لوميت، في المشاهد الأولى من فيلمه الكلاسيكي، "جريمة في قطار الشرق" (1974)، السخرية من ضيق الأفق البريطاني في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، حيث تجري أحداث فيلمه، بل وربما أيضاً كان يقصد السخرية من أغاثا كريستي، كاتبة الرواية التي تحمل العنوان نفسه ويقدم الفيلم معالجة سينمائية لها. فمنذ بداية الستينات، بدأت كتابات كريستي تتهم بالعنصرية، ما دفع الناشرين إلى تعديل بعض نصوصها في الطبعات اللاحقة لتحاشي تلك الانتقادات. ولا يتوقف الأمر عند وصف كريستي للعراقيين، مثلاً، في "جريمة في بلاد الرافدين"، بأن لونهم "أصفر غامق قذر"، أو عند رواياتها للأطفال "عشرة زنوج صغار"، والتي كانت مستلهمة من أغنية تحمل الاسم نفسه، تحتفى بموت عشرة أطفال من داكني البشرة. فرواية "قطار الشرق"، مليئة بالتنميطات العنصرية تجاه الإيطاليين، بوصفهم مجرمين بالطبيعة، وتصعب الثقة فيهم. وهي إشارات متكررة، حذفها لوميت تماماً من فيلمه، بالإضافة إلى أنه أدخل تعديلات على مكان انطلاق المشهد الافتتاحي للفيلم. وإن كانت التعديلات طفيفة، لكنها تظل مثيرة للاهتمام.

يبدأ السطر الأول من رواية كريستي، في سوريا، وفي محطة قطار في حلب، حيث يغادر المحقق البلجيكي، بوارو، إلى إستنبول في طريقه إلى لندن، بعدما حل قضية غامضة، استحق عليها شكر مرافقه، ضابط الجيش الفرنسي، على "إنقاذ شرف العسكرية الفرنسية". وفي المقابل، يحول فيلم لوميت، جنسية الضابط، من الفرنسية إلى البريطانية، ويغير جملته إلى "إنقاذ سمعة الحامية (البريطانية) في الأردن". لكن تلك التعديلات، والتي لا تغير شيئاً على الإطلاق في حبكة الأحداث، وتبدو راجعة إلى إدراك السياق الاستعماري لها وحساسية تجاه خلفياته السياسية، لا تقتصر على الفيلم. فالترجمة العربية للرواية (الأجيال للترجمة والنشر) أزالت شخصية الضابط الاستعماري تماماً، مع حواره القصير مع بوارو، وإن أبقت على إشارات نمطية وتحقيرية واضحة، في المقدمة نفسها: "لا بد أن هذه هي حلب، لا يوجد كثير مما يرى، مجرد... مشاحنات كلامية غاضبة تجرى بالعربية".
 

في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، إُطلقت المعالجة السنيمائية الثانية للرواية، "جريمة في قطار الشرق" (2017)، للمخرج البريطاني كينيث براناه، والذي قام ببطولة الفيلم أيضاً. جاء الفيلم، الذي ضم نخبة من نجوم هوليوود، مثل بنيلوبي كروز وجوني ديب وميشيل فايفر وغيرهم، مفتقداً للحس الفكاهي وطزاجة الفيلم الأول، وكذلك للإثارة المتضمنة في نص الرواية، إلا أنه حاول تجاوزهما في معالجة موضوع العرق، والتنميطات الإثنية. ففي الفيلم الجديد، يحول براناه، شخصية الطبيب اليوناني، إلى طبيب أسود، ويصبح لون بشرته السوداء والعنصرية الموجهة تجاهه من أحد الركاب النمساويين، واحداً من مفاصل الحبكة المهمة، والتي تبدو وكأنها -عن وعي- تأخذ مسافة كبيرة من أغاثا كريستي، بغية مواجهة تنميطاتها العنصرية المعتادة والتغلب عليها.

إلا أن تلك المحاولة حسنة النية، لا تنجح على الإطلاق. بل إن الفيلم يذهب في تنميطاته العنصرية، أبعد مما ذهبت إليه رواية كريستي نفسها. يبدأ براناه فيلمه، بمشهد لحشود غاضبة من سكان القدس (يهوداً ومسيحيين ومسلمين)، أمام حائط المبكي. يتقدم المحقق بوارو، للوقوف أمامهم، مستعرضاً المتهمين الرئيسين، وهم ثلاثة رجال دين يمثلون الأديان الثلاثة، ويظهر على جميعهم الرعب من أن تفتك الجماهير بهم. لكن بوارو ينقذهم، بالكشف عن المجرم الحقيقي، قائد الشرطة البريطاني في المدينة، والذي كان يبتغى الإيقاع بين طوائف سكانها. للوهلة الأولى، يبدو الأمر إدانة لدور الاستعمار البريطاني في المنطقة، وفي فلسطين تحديداً. لكنه ليس كذلك تماماً. فقائد الشرطة البريطاني، في مقدمة الفيلم، ليس أكثر من مجرم، لا سياسة ممنهجة من ورائه، فيما يظهر سكان المدينة من العرب واليهود، كحشود  هائجة، ومستثارة للفتك بمن أمامها، طوال الوقت، ويمكن أن تحرك غضبهم مكيدة رجل أبيض واحد، وأن تخمد الفتنة بينهم حصافة رجل أبيض آخر. يظهر الشرقيون، في الفيلم الجديد، بلا صوت يمكن فهمه، مجرد صراخ غاضب، كما الأمر في الرواية. فلا يوجد ما يستحق الذكر في حلب، سوى المشاحنات الغاضبة بين العرب هناك. وكما في الفيلم الكلاسيكي، فالشرقيون في استنبول، حيث تنطلق القصة، لا يظهرون سوى كمتسولين أو باعة جائلين، يتوسلون بعبارات غير مفهومة، أو كمجموعات صامتة ترتدي أزياء غاية في الإيكزوتيكية.



وبين حلب واستنبول والقدس، يبدو تتبع تلك التعديلات والإضافات والحذف، من الرواية إلى ترجمة، ومن فيلم إلى آخر، مغرياً ومسلياً، وإن حمل مخاطرة تحميل تلك التغييرات الطفيفة أكثر مما تستحق من معانٍ. فربما الأمر أن كل تلك المدن سواء، فأي فرق بين حلب والقدس؟ أو بين ضابط استعماري وآخر، أكان فرنسياً أو بريطانياً؟ فالشرق الذى يحكمه الضابط الأبيض، أياً كانت جنسيته، هو مجرد خلفية محمّلة بالأصوات المزعجة، أو مكان لمرور القطار السريع، والذي يحمل ركابه والعاملون فيه، إضافة إلى الجنسية الأميركية، جنسيات أوروبية متعددة، لكن بلا وجود لشخصية شرقية واحدة في الأحداث. وإذا كان موجوداً في الخارج، فهو إما يرفع صوته غاضباً، أو ينتظر المحقق الأبيض القدير لتهدئته.
هكذا تتغير البدايات، لكن النهاية تبقى واحدة.