"بيجو" وأسطورة لبنان

رشا الأطرش
الخميس   2017/11/23
احتشد المؤيدون أمام بيت الرئيس سعد الحريري في عيد الاستقلال (غيتي)
ما القاسم المشترك بين لبنان، وسيارات "بيجو"؟ 
السؤال ليس بالغرابة التي يبدو عليها. والإجابة ليست فرنسا... وإن حبَكَت هنا النكتة الرائجة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومفادها أن "ما ملاقيها حلوة نحتفل باستقلال لبنان عن فرنسا، والجماعة بعدهم محررين رئيس وزرائنا".

في كتابه "سابينز: التاريخ المختصر للجنس البشري"، يروي الباحث الفذ يوفال هراري، قصة آرمان بيجو الذي ورث عن ذويه، في العام 1896، ورشة حدادة تنتج نوابض ومناشير معدنية ودراجات هوائية، فقرر أن يخوض بها غمار صناعة السيارات. قبل ذلك، لو أن زبوناً خذلته دراجته أو نفَد صبر دائن، فإنهما كانا ليُقاضيا السيد بيجو الذي قد يضطر إلى بيع بقرته للتعويض على المدّعين. لكن القانون الفرنسي، أيام آرمان، كان قد بدأ يتيح شكلاً مغايراً للبزنس، فأسس الرجل ما عُرف بـ"شركة محدودة المسؤولية"، حملت اسمه، لكنها باتت مستقلة تماماً عن شخصه. وإن توجّه إلى المحكمة، زبونٌ غاضب أو مُقرِضٌ لَجوج، فإن الدعوى كانت لتطاول "شركة بيجو"، وليس آرمان بيجو.

الشركة، منذئذ، صارت "موجودة"، وما زالت حتى يومنا هذا. لا كارثة مالية، مهما كبرت، في وسعها إزالتها من الوجود. ولا كارثة طبيعية أو بيولوجية، يمكنها أن تمحو "بيجو"، ولو تسببت في مقتل كل الموظفين، وتدمير كل المصانع، وتحطيم أكثر من مليون سيارة سائرة في شوارع العالم. شركة بيجو لا تفنى، إلا إذا حلّها قاضٍ، بجرّة من قلمه على ورقة قرار. في هذه الحالة، ورغم أن خدشاً لن يكون قد أصاب المنشآت والسيارات، ورغم بقاء الموظفين سالمين، فإن "بيجو" ستكون قد اختفت. وهذا ما يضع العقل في الكفّ: وكأن "بيجو" لا تنتمي إلى العالم المادي.. فهل هي موجودة فعلاً؟ وبحُكمِ أي واقع؟

هكذا هي الأساطير المؤسِّسَة. في الماضي البعيد، تولاها الكهنة والسَّحَرة، صانعو الآلهة والشياطين. واليوم أيضاً، يكفي أن يرتدي كاهنٌ اللباس المناسب، ويتمتم بالكلمات الصحيحة، حتى تتحول قطعة خبز مغمسة بالنبيذ إلى جسد المسيح ودمه، ويتناولها جمهور المؤمنين على أنها كذلك. وهذا ما فعله محامي آرمان بيجو. خطّ التعاويذ القانونية على ورقة ممهورة بالمُلائم من الحِبر والأختام، فصار الملايين، في فرنسا وخارجها، يقرّون بوجود "بيجو". بل راح وجودها هذا يراكمُ القوة والنفوذ.

الواقع المتخيَّل ليس كذبة، بل هو ما يصدّقه الجميع، يقول هراري. وطالما هناك تصديق جماعي، فإن الواقع المتخيَّل يمارس حياته وتأثيره. والحال، إن موجودات مادية، كالأنهار والأُسود والشجر والبشر، بات بقاؤها معتمداً على حُسن سير الكيانات المتخيَّلة من آلهة وأمم وشركات.

وسكان لبنان أمانة في عنق المتخيّل اللبناني، يقول استقلال2017. مصيرهم، حياتهم وموتهم، السياسة والاقتصاد والثقافة، الصمود المترنح على حافة الاستقرار الأمني والاجتماعي.. كل شيء رهن ذاك الذي يروَّج له في عيد استقلاله على أنه ليس كذبة.

الوطن اللبناني الذي يفترض أن يصدقه الجميع، يقدّس البذلة المرقطة، ويهيم حبّاً في التحية العسكرية، لا سيما صغاره. الأطفال أساس في معظم إعلانات الاستقلال. هم الذين، بالبراءة والفِطرة (السليمة دائماً؟!)، يجذبون الكبار إلى مسيرة احتفالية بالجيش في شوارع بيروت المتحولة، بفعل ازدحام السير وسوء البنى التحتية، إلى موقف سيارات كبير. والأطفال هم الرمز الأوّلي، الغرائزي والبدائي، لمَن يحميهم العسكر من خطر خارجي بالضرورة، مختلف بالضرورة. فالداخل في وئام، والسلام في الداخل أمل الكذبة. الأطفال يمسكون أيدي الجنود، يحيونهم، ويتراكضون إلى أحضانهم. كلنا أطفال في عيد الاستقلال. كما أننا جميعاً، بطوائفنا ومختلف قطاعات عملنا، نلهج بلبنان ونعمل لأجله أولاً، ومن بعده طوفاننا، فرادى وعائلات وجماعات.. على ذمة إعلان لأحد المصارف.


"بيّ الكل" الذي صار رئيساً للجمهورية، أوحى لأحد الأفران بشعار "ربطة الكل". والحقيقة أن التسمية غالية ومهمة ومعبّرة إلى درجة بعيدة، وحرام ألا تُخلَّد. وصانع الخبز هذا، قرر أيضاً أن "بلدنا كسر القالب"، إذ تمرّدَ رسمُ الخريطة في العجين على سطوة "الشَّوبَك".

ولعل فيروز ووديع الصافي هما أبرز كهنة استقلال2017. ومثلما قررت فيروز الرحبانية، منذ عقود، أن "حبة من ترابك بكنوز الدني"، تعبّر ماركة البنّ اليوم عن فخرها بكل حبة تراب لبنانية، بعدما شكّلت خريطة الاستقلال بحبّات البنّ. وشركة الاتصالات رددت، بعد فيروز أيضاً، "تَتِخلص الدني" بعد رسم القلب الذي يُضمر "يا لبنان بحبك". وأغنية "يا ابني" لوديع الصافي ألهمت فريق "الماركتنغ" العامل لصالح الجيش اللبناني، شعار "بلادك ألبك اعطيها". نعم، "ألبك" بحرف الألف، ورحم الله سعيد عقل الذي مات قبل أن يرى "لغته اللبنانية" في لوحة إعلانية، بل وطنية.


والوطنية تفاقمت في استقلالنا هذا العام، إلى حد مناقضة المعادلة السحرية التي قامت عليها "سويسرا الشرق"، من تجارة حرة وسوق مالية ليبرالية، فراحت "بيرة بيروت" تهذي بالجلاء.. جلاء كل بيرة أجنبية عن لبنان، وهي نفسها البيرة التي تعلن بفخر أنها باتت متوافرة في أسواق خارجية. هنا روح المتخيل اللبناني: نحن نكرَه "الغرباء" على أرضنا، ولو كانوا من صلب اقتصادنا، ولو كان "الغريب" مصطلحاً مطاطياً نعفي منه مَن نشاء وقتما نشاء.. ولنا أراضي العالم، نرسل منها حوالاتنا، وننشر فيها وجودنا الذي لا يحيد عن الحضاري.

والواقع اللبناني الذي يصدقه الجميع، لا يحتمل الدعابة. فأن تعتمد شركة الحلوى شعار "ما بحياتك تكبر"، وتصوّر لبنانيين راشدين يتنشقون غاز الهيليوم من البالونات، ليترنموا بالنشيد الوطني بأصوات مضحكة على غرار الأطفال في لعبهم، فهذا ما يستنهض المطالبة بحذف الإعلان. فنحن الأطفال الذين نمسك أيدي الجنود، بكل حب تسليمي جادّ. أما أن نمزح مع النشيد، ونلهو مع الوطن، فهذا ما لا تسمح به الذات اللبنانية المُصدِّقَة.

في استقلال2017، على مَن يدّعي الناس، ومَن يحاسبون، إن فكروا في ذلك؟
فهنا شركة لبنان محدودة المسؤولية. ما زالت تدافع عن وجودها، وبضراوة. متعثرة، شبه ميتة. منشآتها متهالكة، موظفوها ليسوا منتجين، بل قُتل منهم الكثير. لكنها موجودة. مصانع خطابها تعمل بشحائح الموروث، والزيت في مفاصل الماكينات ملوث. إلا أن شركة لبنان، ما زالت تُصدّر صوراً وشعارات ومعاني، لها عيد يُحتفل به، وسَحَرتها ماضون في تدبيج الإعلانات والأغاني والفيديو كليبات على افتراض أن الملايين يصدّقون... كارثة إن كانوا يصدّقون.