الانتداب الفرنسي والاحتلالات اللبنانية

محمد حجيري
الأحد   2017/11/19
رياض الصلح (علي علوش)
لقارئ حكاية الاستقلال اللبناني بروايتها الرسمية، أن يلاحظ أنها مسرحية فولكلورية هشّة، ربما أبرز حدث فيها، اعتقال بعض وجوه الإستقلال، وحبسهم في قلعة راشيا لأيام. دائماً، كان التأريخ الرسمي لمرحلة الانتداب الفرنسي، فيه الكثير من "الميوعة" والنعومة، والميل إلى وصف دولة الإنتداب بـ"الأم الحنون"، على عكس الصورة التي رُسمت للسلطنة العثمانية في كتب التاريخ اللبناني. 

واذا أردنا أن نضع الانتداب الفرنسي جانباً، ونتأمل مشهد لبنان المستقل، نلاحظ أنه عانى، منذ البداية، احتلالات محلية أشد فتكاً من الانتداب. وقادت تلك الاحتلالات، جماعات حزبية مسلحة وفاشية وإرهابية، أو متواطئة مع الخارج، أو مدعومة من اسرائيل، أو تابعة لـ"سوريا الأسد"، أو لا تعترف بالحدود اللبنانية (إسلامية متطرفة)... وحين اندلعت الحرب، استهدف المتحاربون (المحتلون)، أول ما استهدفوا، تماثيل رجال الاستقلال، ما يعني ذلك من أنها كانت حرباً على ما يتمثه تلك الشخصيات، والاستهداف معناه إعلان الجماعات المحلية عن نفسها ومشروعها وأهدافها وأحلامها وكوابيسها.

الولادة
وتماثيل رجالات الاستقلال ليست مجرد معادن جامدة، فهي تعبيرٌ عن ذاكرة ثقافية ومكانية واجتماعية. شُيدت في زمن كان لبنان يعيش ازدهاراً في مختلف المجالات، ونُسفت في مرحلة بدأ فيها "الوطن الصعب" يحترق، وأعيدت في عهد عندما لم يبق فيه شيء على حاله. فقد شُيد تمثال رياض الصلح البرونزي في المنطقة التي كانت تشكل حدود بيروت في القرن التاسع عشر، حيث كان يقع سور المدينة، وقبل تشييد التمثال، كانت ساحته تعرف بساحة "السور". وهناك بنيت "النافورة الحميدية". استغرق صنع تمثال الصلح من النحات الإيطالي مارينو مازاكوراتي، ثلاث سنوات، ودُشّن العام 1957 بفي حضور الرئيس كميل شمعون، مكان "النافورة" التي نقلت إلى حديقة الصنائع. ويعتبر تمثال الصلح الأكثر دقة بين التماثيل لناحية شبهه بالرئيس الراحل.


وأبصر تمثال عبد الحميد كرامي في طرابلس، النور، في 24 تشرين الثاني 1963، في حضور الرئيس فؤاد شهاب ونجل الراحل، رشيد كرامي، الذي كان رئيساً للحكومة. وقد أقامت الدولة هذا النصب على نفقتها الخاصة. أما تمثال بشارة الخوري فقد تأخر وضعه كثيراً عن تمثال شريكه الميثاقي رياض الصلح، إذ أزيح الستار عنه في العام 1971، في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة، وكان قد نحته الفنان سميح العطار، بعدما فاز في مسابقة تمهيدية اجرتها الدولة لاختيار افضل نحات. وكانت ابنة الرئيس، اوغيت كالان، قد أصرت على عدم الاستعانة بنحاتين أجانب، وحصر الموضوع فيفنانين لبنانيين. وتولت بلدية بيروت دفع تكاليف المنحوتة. وكان للخوري تمثال آخر في ساحة بيت الدين، قال عنه ابنه ميشال: "انه افضل بكثير من الأول، ويشبه الرئيس الى حد بعيد، لكنه اختفى ايضا خلال الحرب، ولا أدري ما إذا كان قد دُمّر أو سُرق". وفي أوائل السبعينات، شُيد تمثال حبيب أبي شهلا عند مستديرة الأونيسكو. يومها، قدمت الدولة أرض الساحة وانشاءاتها وتحملت العائلة نفقات تنفيذ المنحوتة في ايطاليا.  


التهجير
وحين اشتعلت الحرب الأهلية، كانت التماثيل هدفاً. ففي آب 1976، انفجرت عبوة ناسفة امام منصة تمثال كرامي، فحطمته. وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وضعت "حركة التوحيد" الإسلامية، نصب كلمة "الله" مكان التمثال، وانتقلت الساحة من "الوطنية الاستقلالية" إلى الأسلمة، من ساحة عبد الحميد كرامي الى ساحة "النور"، وبات النصب الاسلامي يحتاج فتوى لإزالته، وكانت أسلمة الساحة مقدمة لتيارات متطرفة شوهت صورت المدينة.



تمثال الصلح كان في قلب بيروت، في قلب المعارك الدائرة حول منطقة الفنادق، وسرعان ما أصيب بعبوة ناسفة من جهات معروفة، ليُنقل إلى قصره بالقرب من السفارة الكويتية في العام 1976، وبعدها إلى دمشق. كان اغتيال التمثال إيذاناً باغتيال قلب بيروت وموت نبضها وتحولها إلى مدينة أشباح. وخلال الاجتياح الاسرائيلي العام 1982، تعرض تمثال حبيب أبي شهلا للتفجير، ونشرت جريدة "السفير" صورته وقد طار عن قاعدته في "الأونيسكو" وانغرز في رأسه عمود حديدي. بينما بقي تمثال الخوري، صامداً مكانه عند خطوط التماس بين الشرقية والغربية، إلى شهر آب 1984، حين فُجر بعبوة ناسفة أيضاً. يومها، خرج رئيس الحكومة الراحل صائب سلام بتصريحٍ يقول فيه: "إنّ أمّة تبغي الحياة لا تسمح لنفسها بالقبول بأيّ عدوان على رموزها". وقال نجل الرئيس خوري: "الرأس وحده نجا"، وأضاف "احد ضباط الجيش سلمني اياه في الثمانينات بعدما انتشله من أرض المعركة. وهو لا يزال مشوهاً ومثقوباً. في اي حال، لا أهتم كثيراً لأمره لأنه لا يشبه والدي، ونحتفظ في العائلة بتمثال صغير افضل منه نضعه كل عام أمام المدفن في ذكرى الاستقلال"  ("النهار" 22 تشرين الثاني 1995). وفي العام 1987، وبعد وفاة رئيس حزب الكتائب، الشيخ بيار الجميل، أقام نجله رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، تمثالاً عملاقاً لوالده في بلدته بكفيا، سرعان ما سقط بعبوتين ناسفتين. 


كان نسف التماثيل جزءاً من نسف الجسم اللبناني. أُفرغت الجمهورية اللبنانية من أسسها خلال الحرب، وغلب منطق التشبيح والمتاريس. كتب نقيب المهندسين الحالي، جاد تابت، في مجلة "بدايات": "اختفاء تماثيل رجال الاستقلال من ساحات بيروت كان تعبيراً عن أنّ نظام الدّلالات الرّمزيّة في الحيّز العام قد تبدّل جذريّاً خلال سنوات الحرب. فمنذ اندلاع المعارك الأولى في بيروت ربيع 1975، بُترت المدينة من وسطها وانهارت فجأةً بنيتها القديمة فانفجر حيّزها من الدّاخل وتطايرت شظاياه في كلّ مكان.
ومع انهيار سيطرة السّلطة المركزية، أقام أسياد المدينة الجدد مناطق نفوذهم فقسّموا الحيّز المديني إلى مجموعة مقاطعات مغلقة على بعضها البعض. وبلغ هذا التّشتّتن في أواخر الثّمانينيات، حدّاً، انهار معه انقسامُ المدينة إلى منطقتين شرقيّة وغربيّة، فتفتّتت كلّ منطقة بدورها إلى مجموعة مقاطعات تُديرها مليشيات متحاربة. 
في هذا الحيّز المتفجّر برز نظامٌ جديدٌ للدلالات، انتشر في كافّة أنحاء المدينة. إذ كان لا بدّ لكلّ فريقٍ أن يحدّد مناطق نفوذه عبر إشاراتٍ تشهد على سيطرته وتفوّقه على الأرض".

و
في 22 تشرين الثاني 1996 كتبت جريدة "النهار": "زعماء الاستقلال ورموزه الذين كانت نصبهم في بيروت محجة الذكرى وباعثها، طارت نصبهم ولم يبق منها إلا القواعد تنتظر الرؤوس. تمثال الريس بشارة الخوري في رأس النبع لم يبق منه سوى القاعدة المدمرة وتمثال الريس رياض الصلح في ساحته ينتظر من يبعثه حياً. اما تمثال ابي شهلا في مستديرة الاونيسكو فبات أثراً بعد عين"... في العام 1997، بدأ تماثيل الاستقلاليين تعود إلى مكانها، وكانت البداية مع تمثال حبيب أبي شهلا الى موقعه في الأونيسكو في بيروت. وفي بداية تموز1998، أعيد تمثال رياض الصلح إلى قلب وسط بيروت، وكتب أحمد عياش: "عاد الفارس في ساحته بعدما ترجل أعوام الحرب عن قاعدته. وعاد الى الساحة من اعطاها اسمها. ولما غاب تمثاله لم يغب، طبعاً" (النهار 10 تموز 1998).  وكتب حازم الأمين: "تمثال الصلح الذي أعيد الى ساحته، وعلى رغم ما عاد وأضفاه عليها من مهابة، ومن إعادة ربط المكان بذاكرة وبأحداث، وبأسلوب في الحياة والتخاطب، خسر محيطاً كان على علاقة بوضعه وباختيار الجهة التي ينظر اليها رياض الصلح، وبمعانٍ كثيرة قد لا تكون مستمدة من وقائع فعلية، لكنها على ما يبدو كانت ترميزاً ذكياً وضرورياً" (الحياة 25/7/1998). أما تمثال بشارة الخوري فقد أعلن نجله ميشال الخوري، في بداية العام 2001، عن انتهاء ترميم قاعدته، وأنّ تمثالاً جديداً يعمل عليه النحات أنطوان برباري، ولم يرجع إلى مكانه إلّا في تشرين الثاني 2005... وهو لم يُرضِ هواة النحت، بسبب عدم تناسق أجزائه مع بعضها البعض،فحجم الرأس لم يتناسب أبداً مع حجم الجسد الضخم جدّاً.
 
تماثيل اضافية
في أيار عام 2005 اعيد تمثال بيار الجميل (الجد) الى بكفيا، وفي عام 2011 شيّد تمثال صائب سلام عند تلة الخياط ونفذه الفنان الارمني مكرديش مزمانيان مصنوع من البرونز، وضع على قاعدة رخامية عنوانها الاساسي "لبنان واحد لا لبنانان" ضمن حديقة خصصت للتمثال. ويلف النصب مجموعة من مكعبات ثابتة من صخر لبنان تمثل الطوائف الرئيسة الست مع اعمدة تمثل الطوائف الاخرى. وتميز تمثال الرئيس سلام بالعلامتين الفارقيتين القرنفلة على صدره والسيكار في يده. وفي دير القمر نحت تمثال للرئيس كميل شمعون قيل إنه يشبه كل شي إلا كميل شمعون، دون أن ننسى تمثاليّ رفيق الحريري أمام السراي الحكومي وفي منطقة السان جورج، وهي باتت تنسب الى الاستقلال الثاني عن الاحتلال السوري، وفي خلدة شيّد تمثال مجيد ارسلان كان من المفترض رفع الستارة عنه في 12 الجاري، ربما أُجل بسبب استقالة الحريري. 


لا شيء يؤشر حتى الآن الى أن كثرة التماثيل أو عودتها، عودة إلى القيم السياسية التي نهضوا بلبنان على اساسها. فبعض أبناء الاستقلاليين هم مجرد أدوات وأبواق لأنظمة خارجية، واذا كانت نصب كلمة "الله" ما زلت في مكان تمثال عبد الحميد كرامي وتحتاج فتوى لحل مسألتها، فمحيط تمثال رياض الصلح تحول باحة للاعتصامات والتعبير عن الرأي، لكن التمثال لن ينج من الاهانات، الاولى عندما تمّت تغطية رأسه والطربوش الذي يعتمره بـ "سطل الزبالة" أيام الحراك المدني، قبل أن تعمد الأيدي الفاشية الى تشويه التمثال عبر دهن البويا ورسم نجمة داوود عليه، وكتابة عبارات انتقامية تشير الى الجهة التي اغتالته. أما تمثال بشارة الخوري فكأنه غرفة مهجورة، وقد سرقت بلاطات قاعدته ذات مرة، وفي كل مناسبة سياسية حزبية يتحول التمثال منصة للأعلام واللافتات...

هذا غيض من فيض من مشهدية اللبناني وهيمنة الجماعات على الساحات بطريقة لا تختلف عن الاحتلال.