إستعادة الأَعلام الثقافية: تكفير الإِعلام عن ذنبه

روجيه عوطة
الجمعة   2017/10/06
لوحة رين ماغريت "قنديل الفيلسوف"
من وقت إلى آخر، يستعيد الإعلام الثقافي الفرنسي، أكان مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً، مقابلات مع أدباء وكتّاب وفنانين وشغيلة معرفة راحلين، ساحباً إياها من أرشيفاته ليعيد نشرها، وذلك بالإستناد إلى حدث طارئ أو قضية راهنة، أو حتى من دونهما.


تستمد هذه المقابلات قيمتها من أسمائها، ومن أجاباتهم على الإستفهامات المطروحة عليهم. لكنها في الوقت نفسه، تستمد أهميتها من السياق الحاضر الذي تندرج فيه. فمن المعلوم أن فرنسا تفتقد اليوم إلى هؤلاء المؤسسين في مجالاتهم: لوجهة، أو تيار، أو أسلوب، أو رأي، أو منظور.. أي لهؤلاء الأَعلام، على ما يجري وصفهم. وكذلك هو وضع بلدان أخرى، خسرت المماثلين لهم فيها، ولم تتوان منذ رحيلهم عن الرجوع إليهم، والبحث عن بدائل عنهم بلا أن تنجح.

على أن الإعلام الفرنسي قد ينشر تلك المقابلات مدموغة ببغيته منها. فيُعنونُها بـ"ماذا قال هذا الكاتب عن كذا؟"، أو "ما قاله السوسيولوجي فلان عن هذا الموضوع". وقد تكون العنونة صريحة البغية أكثر. وهي سرعان ما تتصل بمقولة، تعبُر في الزمن الحالي، من الجامعة إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى دوائر الفن، ومن دوائر الفن إلى مكاتب المثقفين، ومن مكاتب المثقفين إلى ألسنة المتابعين: "لماذا علينا أن نعود إلى هذا أو ذاك؟". أو ببساطة: "عودوا إلى هذا أو ذاك". ما عاد هناك أَعلام كهؤلاء القدامى الميتين، وها هم المهتمون بحذو حذوهم لا يتوقفون عن استحضارهم الواحد تلو الآخر، وفي الكثير من الأحيان، كمخلصين، يحملون خطاباً، وليس كمعلّمين، يجب الإشتغال فيهم. هذا ما يسجله الإعلام في استعادته لهم، إلا أنه، وبذاته، يشارك في إجهاض أي محاولة لولادة غيرهم لاحقاً.

ذات مرة، تحدث كاتب فرنسي عن عمله في إحدى الصحف، حيث قال له زميل ما معناه: "أشفق على عمال الثقافة اليوم، ما إن ينشروا كتاباً أو يقدموا عرضاً أو يدبجوا قصيدة حتى نمضي إليهم، وننشر مقالات عن أعمالهم، ما إن يبدأوا رحلتهم حتى نوقفها بحبنا لهم الذي يدعى وَهمَ الشهرة والنجاح". وفعلياً، انحسار الأعلام، أو انعدامهم، يشارك في إنتاجه هذا "الزميل"، الذي، وما أن يجد تجربةً في أولها، وما زالت تحتاج إلى المرور في تارات ومراحل، حتى يمضي إلى توجيهها صوب صفحاته وشاشاته وكل أثير يديره. وعندها، تفقد كل فرصة لتتماسك وتتحصن. ببساطة، ما إن تولد حتى تبدأ بالموت.

معروفة تلك الخبرية عن أحد المسالك الفايسبوكية: يشتري هاتفاً لكي يصوّره وينشر صورته على الحائط الفايسبوكي، يلاقي أصحابه لكي يتصور وإياهم وينشر صورته معهم على الحائط... يعيش كي يتصور وينشر صور عيشه على الحائط. يحصل على "لايكات"، بديهي، ولا يهم ماذا يحصل في ما بعد. الخبرية نفسها، تنسحب على العمل الثقافي في ظل سلطة "الزميل": يؤلف كتاباً بهدف أن تُنشَر مقالة عنه، وينظم معرضاً كي تلتقطه عدسة تلفزيون، يثاقف لكي يُصفق له، يحصل على المقالة والصورة والتصفيق. غير أن المهم، هو ما يحصل في ما بعد: تتجمد التجربة، تحتضر، ويدور صاحبها من الإحباط إلى الإجترار، وبينهما، السخرية. أما عندما يجري نقده، يرتفع صوت الهذيات، صوت الجنون الإرتيابي: "هناك مؤامرة عليَّ".

يشارك الإعلام، كما يفهمه "الزميل" ويمارسه، في اغتيال التجارب، التي كان من المحتمل أن يؤدي بعضها في المقبل، البعيد أو القريب، إلى إنتاج تفرد ما، يكون من شأنه محاورة عَلَم أو تطويره، أي، وبعبارة واحدة، التتلمذ عليه. وعلى إثر ذلك، على إثر التصحر المزعوم في خانة الأعلام، يعمد المحيط الإعلامي إلى استعادة الأعلام القدامى، علّه يسد الفراغ الذي خلقه، مقدماً إياهم كمنقذين أكثر منهم أساتذة. إنه التكفير عن الذنب، ذنب اغتيال المتأثرين المفترضين بهم، اغتيال تلامذتهم، أصحاب التجارب، التي تموت لما تولد.

وفي الوقت نفسه، قد يحاول ذلك الإعلام أن ينتج أعلامه، فيطرحهم كنجوم، من دون أن يحصلوا على شعبية المماثلين لهم في أوساط أخرى طبعاً. بعضهم، يفرط في تأكيد صورته المعّدة للاستهلاك. والبعض الآخر يؤديها بخبث. والبعض يصدقها. ففي لبنان، وللمستمع إلى ما يدور بين غالبية الكتّاب، على أنواعهم، لا سيما مَن شبّ منهم خلال التسعينات، ينتبه إلى عبارة يرددونها: "ما عدنا نريد أن نتعرف على كتّاب نقرأ لهم ونحب كتاباتهم، لأننا، عندها، نُفاجأ بهم". وبعيداً من غياب الداعي إلى التعارف الشخصي، إلا أن هناك تعطشاً إلى الأعلام، تعطش يسعى هؤلاء إلى سده بالأعلام المصطنعين. لكنهم سرعان ما يكتشفون أن ما تخيلوه عنهم ليس في مكانه البتة. ومع ذلك، قد يواظبون على النظر إليهم كـ"أعلام"، فلا يتوقفون عن التوهم، بل يرضخون. وفي بالهم، أنهم، ومنذ البداية، أي من التعارف إلى الخيبة، ثم إلى المعاندة والنكران الإستسلاميين، يستفيدون من النجومية ليغدوا شهيرين.

كتب أحد الفلاسفة: "تعساء هم الذين لا معلّمين لهم". فإما يستحضرون، وبمعية الإعلام، أعلاماً قديمة كمخلصين، وليس كمعلّمين، أو يستهلكون الأعلام التي صنعها لهم مع أنهم يعرفون مضار فعلهم، "هذا هو الموجود"، أو يقلبون توهمهم السابق إلى عدمية متواصلة "لا وجود لشيء". وعلى هذا المنوال، هناك تجارب متعددة لاقت وتلاقي حتفها.