الفكر الراديكالي لبودريار.. غاية الغايات أن تتلاشى الفكرة(1)

روجيه عوطة
الجمعة   2017/01/06
الكتاب لا يتوقف سوى عند زوال موضوعه(غيتي)
في العام 1994، نشر جان بودريار (1929-2007) كتيباً بنص واحد، عنونه "الفكر الراديكالي"، وقد صدر عن دار "Sens et Tonka". يوطئ الفيلسوف المتنقل بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية نصه مقتبساً عبارة من عبارات الروائي والشاعر روبرت لويس استفنسون (1850-1849): "لا تعد الرواية عملاً فنياً على أساس تشابهاتها الحتمية مع الحياة، بل انطلاقاً من الاختلافات اللامتقايس، التي تفصلها عنها". على هذا المنوال، يستبدل بودريار الرواية بالفكر، ويشرع في الحديث عنه، والقول في علاقته مع الواقع، الذي لم يعد على وجوده ذاته أو مثلما يصوره المؤمنين به أو كُهانه.
لقد انتهى الواقع بفعل الإصطناع، الذي يكفل استمراريته المضغوطة والمموهة، وذلك، بلا أن يحذو المصطنع حذو الإيديولوجي عبر اخفاء الموجود، بل أنه يستر غير الموجود فعلياً. من هنا، يلح بودريار على الحاجة إلى فكر آخر، متنبهاً إلى الفراغ الحاضر في الواقعي، أي تحت المصطنع، فيُدمغ به، ويعبث بهما. إذ لا ينتج فرضيات ونظريات تبغي التحقق، أو الحصول على شرعيتها من الواقع، بل أنه يدافع عنها كأفكار أو أفخاخ، تؤلفها وتحملها لغةٌ، سمتها الأساس هي الفرح... هنا، ترجمة للحلقة الأولى من النص، وغدا حلقة ثانية واخيرة...


لا يحوز الفكر على قيمة في التقاءاته الحتمية مع الحقيقة، بل في تباعداته اللامتقايسة معها.

ليس صحيحاً أن المرء كي يحيا، عليه أن يؤمن بوجوده الخاص، لا ضرورة لذلك. وعينا لم يكن مرةً صدى واقعنا، أي صدى الوجود في "الزمن الواقعي"، إلا أنه صداه في الزمن المؤجل، شاشة تفرق الذات وهويتها-ففي النوم فقط، يتجانس لاوعينا مع موتنا. هذا الوعي، المغاير للإيمان، ينتج تلقائياً من تحدي الواقع، في موقف مأخوذ من الخيال الموضوعي أكثر مما هو متعلق بموضوعية الواقع. هذا التحدي أكثر حيوية لأجل دوامنا، ودوام صنفنا، من الإيمان بالواقع والوجود، الذي يقدم تعازيه الروحية على اعتقاد بعالم آخر. هذا العالم، ومثلما هي حاله، لا يستطيع أن يكون واقعياً أكثر. "الغريزة الأكثر قدرةً لدى الإنسان هي دخوله في صراع مع الحقيقة، إذاً مع الواقع".

يُرد الإيمان بالواقع إلى الأشكال الأولية للحياة الدينية. إنه ضعف في الفهم، ضعف في المعنى السائد، كما أنه، في الوقت عينه، الحصن الأخير للمتحمسين للأخلاق، للرُسل المبشرين بمشروعية الواقعي والعقلاني، فبالنسبة لهم، لا يمكن الإعتراض على مبدأ الواقع، أو التشكيك فيه. من حسن الحظ، لا أحد، ولا حتى المجاهرون به، يعيشون بحسب هذا المبدأ، أو من أجله. لا أحد يؤمن من البداية بالواقع، أو بوضوح حياته الواقعية. وهذا الأمر محزن للغاية.
لكن، في النهاية، هؤلاء الرُسل الطيبون يقولون أنه ما علينا أن ندفع المعذبين في عيشهم إلى فقدان الثقة بالواقع، فهم يتمتعون بالحق في الواقعي والعقلاني مثلنا جميعاً. اعتراضهم الماكر هذا، يستخدمه الُرسل في الحديث عن العالم النامي أيضاً: ما عليكم أن تدفعوا الجائعين إلى فقدان الثقة بالرفاهية. أو: ما عليكم أن تدفعوا الشعوب، التي لم يحق لها أن تخوض ثورتها البرجوازية، إلى فقدان الثقة بالصراع الطبقي. أو: ما عليكم أن تدفعوا الناس، الذين لم يسمعوا أي كلام عن حقوق المرأة، إلى فقدان الثقة بالمطالبة النسوية والمساواتية... إذا كنتم لا تحبون الواقع، لا تنفروا الآخرين منه! إنه استفهام الأخلاق الديموقراطية: لا يجوز إحباط بيانكور، لا يجوز إحباط أحد.

ثمة احتقار عميق وراء كل هذه الأمنيات العطوفة. ذلك، نتيجة تأسيس الواقع كأنه نوع من التأمين على الحياة، أو من الإيهاب الدائم، مثل آخر حق من حقوق الإنسان أو أول ممتلك من ممتلكات الإستهلاك الرائج. لكن، عند تأميل الناس في الواقع وفي قرائنه المرئية فقط، وعند تقييدهم بواقعيةِ، قدسيتها معَذِبة، يستوي التعامل معهم على أساس أنهم سُذج وأغبياء. هذا الإحتقار، يجب التخلص منه بالقول إن متزلفي الواقعية يمارسونه بالأصل اتجاه أنفسهم، من خلال اختزال حياتهم الخاصة بتكديس الأفعال والبراهين، الأسباب والنتائج. فالحقد المنظم ينطلق في أكثر الأوقات من الذات، ويُزاول فيها.

قُل: أنا واقعي، وهذا واقعي، والعالم واقعي-لا أحد يضحك. قُل: هذا مُصطنع، وأنتم مصطنعون، وهذه الحرب مصطنعة-الجميع يقهقه، وعلى وجههم تظهر ضحكة إما صفراء، أو لينة، أو متشنجة، كأن أصحابها يستمعون إلى نُكتة طفيلية أو عبارة بذيئة. فكل ما يلامس المصطنع هو بمثابة رجس أو فحش، تماماً مثلما هي الحال بالنسبة للجنس أو الموت. بيد أن الواقع والوضوح هما الإذعان، وعلى الحقيقة وحدها أن تثير الضحك. بمقدورنا أن نحلم بثقافة، جميع المنتسبين إليها يضحكون عفوياً حين يسمعون أحدهم يقول: هذا حقيقي، هذا واقعي.

كل ذلك يحدد العلاقة العسيرة بين الفكر والواقع. فهناك شكل من أشكال الفكر متلاحم معه. ينطلق من فرضية وجود مرجع واقعي للفكرة، وإمكان افتكاري للواقع. منظور مؤاس يستند إلى المعنى وفك الترميز. تقاطب الحلول الديالكتيكية والفلسفية بطريقة مدروسة. على عكس الفكر الآخر الذي يشذ عن الواقع، منحرفاً عن مركزية عالمه-إذاً هو غريب عن الديالكتيك، الذي يلعب على قطبين متناقضين، وغريب عن الفكر النقدي حتى، الذي يعزو نفسه أمام الواقع إلى مرجع مثالي. ففي مطافه النهائي، لا يستقر الفكر الآخر على إنكار مفهوم الواقع. إنه خيال، أي لعب مع الواقع، مثل الإثارة باعتبارها لعب مع الرغبة (تقحمها في اللعب)، ومثل الاستعارة بوصفها لعب مع الحقيقة.

هذا الفكر الراديكالي لا ينتجه شك فلسفي، أو تحويل يوتوبي (الذي يستلزم تحويلاً مثالياً للواقع على الدوام)، أو تعال مثالي. إنه إقحام العالم في اللعب، إنه إيهام مادي، محايث للعالم، الذي يوصف بالـ "واقعي"-إنه فكر لا نقدي، فكر لاديالكتيكي. لوهلة، يبدو أنه يجيء من مكان مختلف. في كل حال، ثمة تضارب بين الفكر والواقع، فليس هناك بين الإثنين أي نوع من الإنتقال الضروري أو الطبيعي. لا تتابع، ولا تعاقب: وحدها المغايرة تبقيهما على توتر. فقط، هذا الإنكسار، هذه المسافة، هذه الغرابة، توفر للفكر فرادته، توفر له أن يكون حدثاً منقطع النظير، وبفرادته نفسها، يشبه العالم، الذي يأتي على حدث داخله.

لم تكن العلاقة بين الفكر والواقع على هذه الحال باستمرار. بمقدورنا أن نحلم باتصال فالح بين الفكرة والواقع في ظل عصر الأنوار والحداثة، في الزمن البطولي للفكر النقدي. إلا أن الأخير، الذي كان يُزاول ضد نوع من الوهم، الخرافي أو الديني أو الإيديولوجي، انتهى حقيقةً، حتى لو ظل على قيد الممارسة في دَنيوة كارثية، طبعت سياسات القرن العشرين. فهذه الصلة المثالية، الضرورية، بين المفهوم والواقع، بين العلامة والمرجع، أصبحت اليوم ركاماً.

لقد انفكت بفعل اصطناع ضخم وضاغط، تقني وذهني، وبفعل مداورة النماذج والأدلة لتفيد أوتونوميا الإفتراضي، الذي تفلت، في ذلك الحين، من الواقعي، متمتعاً باستقلالية متزامنة عن الواقع. واليوم، نراه يعمل بنفسه، لصالحه الخاص، في منظور هذياني، أي أن مرجعيته ذاتية. إذ يُرجع ذاته إلى ذاته حتى اللانهاية. بعد طرده من إطاره، من مبدأه، وبعد تغريبه، صار الواقع ظاهرة قُصوى، أي لم يعد بالمقدور التفكير فيه باعتباره واقعيا، بل بوصفه ناتئا، كأنه يُشاهد من عالم آخر-كأنه وهم.

لنعتقد بأن اكتشاف مبهر قد حدث، وهو اماطة اللثام عن عالم واقعي غير عالمنا. فالعالم، الذي نعيش فيه، اكتشفناه ذات يوم. موضوعية العالم، اكتشفناها أيضاً، مثل أميركا، في الحقبة نفسها تقريباً: بيد أن ما نكتشفه، لا يمكننا ابداعه. وهكذا، كنا قد اكتشفنا الواقع، ويبقى أن نبدعه (وبصيغة بديلة: هكذا، كنا قد أبدعنا الواقع، ويبقى أن نكتشفه). لماذا هناك عوالم خيالية أكثر من الواقعية؟ لماذا هناك عالم واقعي واحد؟ لماذا هذا الإستثناء؟ الحق، أن العالم الواقعي، بين كل العوالم الممكنة، هو عالم لا يمكن تخيله، لا يمكن التفكر فيه سوى كخرافة خطيرة. علينا أن ننفصل عنه مثلما فعل الفكر النقدي حيال الخرافة الدينية في السابق. أيها المفكرون، ابذلوا ما في وسعكم!

في كل حال، هذان النظامان الفكريان لا يتجانسان. كل واحد منهما يسير في سبيله بلا أن يختلط بالثاني، أفضل ما يمكن أن يحصل بينهما هو التزحلق المتبادل مثل صفائح تكتونية، ومن وقت إلى آخر، ارتطامهما أو إنخفاضهما يخلق خطوط انفلاق، تودي بالواقع إلى ابتلاع نفسه. والحتمية تقع دائماً عند تقاطع خطين من خطوط القوة. الفعل نفسه ينسحب على الفكر الراديكالي، بحيث أنه يقع عند التقاطع العنيف بين المعنى واللا-معنى، بين الحقيقة واللا-حقيقة، بين استمرارية العالم واستمرارية الفراغ.

على عكس خطاب الواقعي والعقلاني، الذي يراهن على فعل وجود شيء ما (المعنى) أكثر من وجود الفراغ، وبذلك، يريد أن يتأسس، في هيئته الأخيرة، على ضمان العالم الموضوعي وغير المُشَفَر. يراهن الفكر الراديكالي على إيهام العالم، إذ يطمح إلى الوهم، مستعيداً لا صحة الأفعال، ولا-دلالة العالم، متبعاً فرضية مقلوبة، تفيد أن الفراغ موجود أكثر من أي شيء، ومطارداً هذا الفراغ الذي يسير تحت الإستمرارية الظاهرة للمعنى.

التنبؤ الراديكالي يتعلق دائماً بلا-واقع الأفعال، بوهم حدوث الوقائع ووضعها. لا يبدأ سوى بإحساس هذا الوهم، بالإستشعار به، ولا يختلط أبداً بحالة الأشياء الموضوعية. فكل اختلاط من هذا النوع يُعد قريباً من الإختلاط بين الرسول ورسالته، وهو اختلاط يبغي إزالة كل رسول يحمل أخباراً سيئة (أخبار عن تفاهة قيّمنا، عن اللايقين من الواقع، عن لامكان بعض الأحداث). كل اختلاط من اختلاطات الفكر (الكتابة، اللغة) مع نظام الواقع، بحجة الإخلاص له، و البزوغ منه، هو ضرب من الهلوسة. كما ينم عن تفسير خاطئ للغة، والإعتقاد بكونها ليست وهما في حركتها، وليست حاملة لإستمرارية الفراغ في قلب المقال، وأنها، في ماديتها، ليس تفكيك للدال.

فمثلما أن الصورة، الفوتوغرافية أو غيرها، تدل ضمنياً على محو وموت مُتَمثِلها، الذي يمدها بالشدة، كذلك، الكتابة، أكانت الخيالية أو الخيالية النظرية، تستمد شدتها من الفراغ، من بصمة العدم داخلها، من وهم المعنى، من مساحة لغتها التهكمية، التي تتساوى مع المساحة التهكمية للوقائع نفسها. بحيث أنها ليست ما هي عليه-إذ ليست الوقائع أكثر مما عليه، وليست أبداً ما عليه فقط- إنه الإزدواج الملتبس والتام.

فهزء الأفعال، في واقعها البائس، يُرد إلى أنها هي ما هي، إلى أننا نقول على إثرها: "الواقع هو الواقع"، لكنها، بهذا القول، تقع قسراً في ما بعد واقعها، لأن وجود الفعل مستحيل: كل شيء يكون واضحاً جداً، يصير غامضاً. الواقع على العموم كثير الوضوح كي يكون حقيقياً. هذا التحول التهكمي لغوياً يشكل حدث اللغة. بالتالي، على الفكر أن يستعيد الوهم الأساس للعالم واللغة، دون أن يمارس ذلك بغباوة حَرفيّة-خلط الرسول مع رسالته، والتضحية به سلفاً.

إذاً، لكل واحد من النظامين الفكريين غاية متعارضة جذرياً مع الأخرى: الأول يهدف إلى إبراز الواقع الموضوعي للعالم، لكنه، وبالفعل نفسه، يحافظ على اختلافه كفكر، والثاني، يهدف إلى إسترجاع الوهم، وبالفعل نفسه، يريد أن يكون الجزء الفاتن منه. الأول يهدف إلى نوع من الإنجذاب العام، من الأثر المركز للمعنى. الثاني، يهدف إلى اللا-إنجذاب، إلى لامركزية الواقع، إلى شد الفراغ نحو المحيط (ألفريد جاري).

الحاجة إلى الفكر غالباً ما تكون مضاعفة ومتناقضة. ليست تحليل العالم لإستنتاج حقيقة بعيدة الوقوع. وليست التآلف مع الوقائع، واستخلاص بعض البناءات المنطقية منها. إنها أكثر دقة ً، وانحرافاً من ذلك. فهي تشكيل، أو قولبة الوهم وفقدانه، الذي يغذيه الواقع المُثار عفوياً، وبالتالي، يتحقق بعنف من تلقاء ذاته (يكفي تحريك الهدف من وقت إلى آخر). إذ أن الواقع لا يطالب سوى بإحالته إلى الفرضيات، فيحققها، وفي هذا الفعل، يكمن احتياله وانتقامه. فالمثال النظري يستوي على وضع طُرح، يقدر الواقع على إنكارها، فلا منفذ آخر لديه، نتيجة يأس قضيته، سوى أن يعارضها عنفياً، وبذلك، ينزع قناعه.

الواقع وهم، وكل فكر يبحث عن كشفه، وإظهاره غير مقنع. لهذا السبب، عليه أن يتقدم متقنعاً، وأن يتشكل كحيلة، بلا أن يبجل حقيقته. يتحتم عليه، وبفعل كبريائه، أن لا يكون أداة تحليل، أداة نقد، لأن العالم يحلل نفسه بنفسه. العالم يتبدى، لا كحقيقة، بل كوهمٍ.

لا بد من دفع الواقع نحو الفخ، من الذهاب أسرع منه. الفكرة أيضاً، عليها أن تكون أسرع من ظلها. لكن، إذا أسرعت كثيراً، تفقد ظلها. أن يُفقد ظل الفكرة... أن تذهب الكلمات أسرع من المعنى، وعند حصول ذلك، يحل الجنون: إنكساف المعنى يؤدي إلى فقدان طعم العلامة. بماذا نبادل حصة الظل والعمل، حصة الإقتصاد الفكري والصبر، من أجل ماذا نتخلى عنهم؟ الإجابة صعبة للغاية. فعلياً، نحن أيتام واقع يأتي متأخراً، ذاك، أنه، كالحقيقة، ليس سوى محضَر إبطاء.

غاية الغايات، أن تتلاشى الفكرة كفكرة لتصير شيئاً بين الأشياء. في ذلك، تجد  نهايتها. فعندما تتحد مع العالم من حولها، لا يمكنها أن تظهر، أو يُدافع عن حالها الأساس. الفكرة تتضمحل بتبدد صامت، بتفرق متعارض مع أي إحتفال فكري. ليس مصير الفكرة أن تنفجر، بل، على العكس، أن تنطفئ في العالم، في ما بعد بيانها في العالم، وما بعد بيان العالم فيها. الكتاب لا يتوقف سوى عند زوال موضوعه. يتوجب على مادته أن لا تترك أي أثر خلفها. هذا يعادل الجريمة الممتازة والكاملة.