اليمن تودع" الرهينة" الذي كافح من أجل حريتها

صنعاء - فتحي أبو النصر
الأربعاء   2017/01/04
أحمد قاسم دماج بطل رواية "الرهينة"
استطاعت رواية "الرهينة"(*)، للروائي اليمني الراحل زيد مطيع دماج، أن تكون شهادة توثيقية عن عالم اليمن الشمالي (سابقاً)، في ظل نظام الحكم الإمامي الملكي، "نظام الرهائن البغيض"، ما قبل قيام ثورة 26 سبتمبر، والنظام الجمهوري العام 1962.

وفجع اليمن برحيل بطل الرواية الحقيقي، الكاتب واليساري العتيق، أحمد قاسم دماج، الرئيس الثاني لإتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، بعد الشاعر عبدالله البردوني. كتب زيد مطيع دماج، عن تجربة ابن عمه، أحمد، طفل الأربعينيات الذي كان رهينة حينها... فيما أخذت تلك الرواية الكلاسيكية، بُعداً رمزياً كبيراً في الوجدان اليمني.

غير أن أحمد قاسم دماج الذي رحل في صنعاء، عن 78 عاماً، لم يكن طفل رواية الرهينة فحسب، وإنما حصيلة الحلم الأنقى لأجيال يمنية عديدة، في الحداثة والمدنية والتجانس الوطني. (والرهينة هو غلام صغير، ينتسب إلى زعيم قبيلة أو أسرة ثائرة يخشى خطرها، فيأخذه الإمام أو نائبه ليسجنه في قلعة محصنة؛ ليكون ورقة تهديد في يده، إذا ما فكر أهله القيام بما يغضب الإمام). لكن بمجرد تحرره من سجن الرهائن، إثر هروبه منه كما في الرواية، يمكن القول أن الفتى اليافع أحمد قاسم دماج، هرب إلى المستقبل وثار ضد الماضي. وهذا ما حصل، فلقد تعلم وثقف نفسه ذاتياً، حتى صار مثالاً للجيل اليمني الجديد، نهاية خمسينيات القرن الماضي، فناضل ضد حكم الكهنوت الإمامي، وانحاز لليسار القومي، وللعمل الثقافي التنويري بصبغته التقدمية.

عندما صدرت رواية الرهينة في العام 1984، نالت اهتماماً عربياً ملفتاً، وتُرجمت إلى لغات عديدة، ثم بدأ القراء الذين لم يكونوا قد عرفوا أهوال عهد ما قبل الجمهورية، يعرفون أنها رواية واقعية وليست خيالاً، وأن بطلها هو أحمد قاسم دماج. وخلّدت الرواية، قضية الأمة اليمنية، ومعاناتها وطموحاتها واحلامها، في ظل نظام الإمامة الاستعبادي، التوريثي، الإستغلالي للدين، ما قبل الإنساني، وما قبل الوطني أيضا. وبعد قيام الجمهورية، كان بطل الرواية، أول أمين عام لمجلس الوزراء. كما كان من الرعيل الأول لحركة القوميين العرب في اليمن. لكن وعيه النزيه والمكابد، نحاه عن التمسك بمغريات السلطة العابرة، والانحياز إلى صراعاتها اللاوطنية والمصلحية الشخصية غالباً، بل كان دماج مع تطلعات المجتمع كمثقف حر. وفي تلك المرحلة، ساهم في تأسيس صحيفة "الثورة" الرسمية اليومية، وإصدارها من مدينة تعز. ثم مع حصار القوات الملكية للعاصمة صنعاء، لإسقاط الجمهورية، كان من أهم المؤسسين للمقاومة الشعبية التي دافعت عن صنعاء ودحرت الملكيين.

تحول دماج، عقب هزيمة حزيران، إلى الاشتراكية، وذلك بعد ظهور التيار اليساري ضد الإتجاه اليميني في الحركة على المستوى المركزي في بيروت. وفي نهاية الستينيات، ساهم في تأسيس وقيادة الحزب الديموقراطي الثوري، الذي كان من أهم الفصائل اليسارية التي شكلت الحزب الإشتراكي اليمني في 1978. لكن دماج ترك العمل الحزبي المباشر، وصار من أهم أعمدة تنمية الوعي بالمجتمع المدني، بحيث صارت له إسهامات ثقافية ونقابية عديدة، من أبرزها مساهمته الفاعلة في تأسيس إتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، برفقة كوكبة من مثقفي وأدباء اليمن شمالاً وجنوباً العام 1970، كأول منظمة مجتمع مدني موحدة.. فضلا عن انه كان ضمن اللجنة التأسيسية لنقابة الصحافيين اليمنيين في السبعينيات. وفي كل المراحل العاصفة، نتيجة لخلافات أقطاب السلطة، قبل الوحدة، كان دماج، أكثر تشبعاً بروح اليمن الكبير، كإطار وكإنتماء.  

وفي أزمنة السقوط المدوي، للعديد من الأسماء الفكرية والأدبية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن تعدد الكيانات الوطنية، تارة جراء المال السياسي والمناصب السلطوية، وطوراً بسبب الانحرافات المناطقية والطائفية، استمر دماج متشبثاً بنزاهته وبشموخه في وجه الاغراءات والتهافتات. يقول الناقد سعيد الجريري: "أحمد قاسم دماج من أولئك الذين لا تستنسخهم المراحل، ومن يعرف إنساناً مثله، ير من الإنسانية وهجا مشرقا كقلبه. كأن عينيه وهو يغمضهما الإغماضة الأخيرة، تقولان بدفئهما - المأنوس إلي كلما التقيته: لقد رأيت كثيرا، منذ كنت طفلاً (رهينة)، وكم سترون، لكن الوهج المشرق في الإنسانية هو الذي سيبقى!
كان ناحلاً نحول زاهد في كل شيء، إلا محبة الناس، ووضوح الرؤية، غير عابئ بالطارئين على الحياة والسلطة والبشرية. لم أر الأستاذ أحمد يوما إلا ساخراً من سخام يظن أنه شيء، أو موجوعاً بهمٍّ عام، ولم يزغ قط عن رؤية شاملة تشكلت منسجمة مع تكوينه الفكري والأدبي والثقافي". يضيف الجريري: "سئل يوماً - في حوار صحافي - عن حكومة الوحدة اليمنية، فقال بما معناه تقريبا: نفايات الشمال التمّت على نفايات الجنوب؛ فشكلتا نظاماً! وهكذا لم يحتمل النفايات وقد التمّت على أقذر ما فيها، فرحل الأستاذ أسيفاً على وطن الخراب، وأحلام البسطاء التي لم تتحقق".


(*)صدرت الطبعة الأولى من الرواية عن دار الآداب في بيروت العام 1984. وأعيدت طباعتها أكثر من خمس مرات. وتُرجمت لغات عديدة، منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية والصربية والهندية. كما اختيرت ضمن بواكير الأعمال الإبداعية المنشورة في مشروع اليونيسكو "كتاب في جريدة" - العدد الرابع.
"الرهينة" مكتوبة بلغة بسيطة جذابة ومختصرة، كانت وما زالت محل اهتمام النقّاد وكتّاب الرواية العربية.