التعليم المصري يرفض الأبنودي: الشِّعر في قبضة الكَهَنة!

أسامة فاروق
الأربعاء   2017/01/04
انتزع الأبنودي اعترافا بالشعر العامي، الذي ظل طوال الوقت محط أنظار الجماهير
خلال الأيام الأخيرة للعام المنقضي، نظمت لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة(القاهرة) الدورة الرابعة لملتقي الشعر. اختارت اللجنة عنواناً ملفتاً "ضرورة الشعر" يحمل إجابة، ويقينا بأهمية الشعر و"ضرورته".


اليقين بالضرورة انسحب على معظم كلمات المتحدثين، وحتى على عناوين الجلسات، وحملت المداخلات كلها كلمات من نوعيه "الشعر هو صوت الروح وصوت القلب وصوت العاطفة" و"الشعر عماد اللغة" وتحدث الشاعر الستيني أحمد عبد المعطى حجازي عن الشعر كمعادل للحياة، للإنسانية وبقائها، قال إنه يرى فيه كونًا كاملًا، له خصوصيته ومعالمه، التي ما إن تنهار، فتنهار معها بقية الأشياء، العوالم، والبشر الساكنون على هذه الأرض.

لكن وبعد انتهاء المؤتمر بأيام، ومع الساعات الأولى للعام الجديد، أصدرت وزارة التعليم بيانا ترفض فيه إدراج شعر عبد الرحمن الأبنودي في مناهجها بحجة أنه لا يتوافق مع سياستها.. كلمات الشعراء للأسف لم تتخط حدود المجلس الأعلى للثقافة الذي استضاف جلسات المؤتمر.. الشعر ضرورة فعلا!!

كانت نهال كمال، زوجه الأبنودي قد حضرت أحد المؤتمرات الدولية التي احتفت بالشاعر الراحل، واكتشفت مقدار ما يحظى به لدى الطلبة هناك، فاقترحت –في خطاب رسمي- على وزير التعليم المصري إدراج سيرة الأبنودي وبعضا من أشعاره على طلبة المدارس في مصر، باعتبار أنه من الأولى للطلبة المصريين أن يعرفوا شعر الأبنودي. وبعد دراسة معمقة من جانب الوزارة خرجت ببيانها الذي رفضت فيه الأمر: "تعليم اللغة العربية في التعليم قبل الجامعي من أهدافه تمكين الطلاب من التحدث والكتابة باللغة العربية الفصحى، وإدراج أشعار عامية في مناهج التربية والتعليم يتعارض مع الهدف من تدريسها"!

واقترحت الوزارة في بيانها إدراج شخصية الأبنودي في السيرة الذاتية للمفكرين والشعراء المصريين والتعريف بإبداعه، "كما يمكن إرسال نشرات لمديريات التربية والتعليم في المحافظات المختلفة في إدخال نماذج من أشعاره في أنشطة كالإذاعة المدرسية"!... الأبنودي يصلح في الإذاعة المدرسية فقط!

لكن لا مفاجأة هنا، المفارقة في التوافق العجيب بين الوزارة وكهنة الشعر في احتقار الشاعر والشعر نفسه، وتنصيب الكهنة هنا وهناك من أنفسهم أوصياء على ما يمكن السماح له من النصوص الشعرية في النفاذ إلى المناهج، وهي نماذج بالية على أي حال، المفاجأة في توافق عقيلة الوزارة مع عقلية اللجنة التي ترى في شعر العامية مجرد "زجل"، حسب تصريح سابق لحجازي رئيس اللجنة نفسه، في الدورة الأولى للملتقى، أما في الدورة الأخيرة فبالإضافة إلى استبعاد كثير من النماذج الشعرية وتجاهل شبه تام للأصوات الجديدة، تم استبعاد شعر العامية نفسه، إلى الحد الذي جعل عددا من منظمي المؤتمر يهددون بالاستقالة حال فوز شاعر العامية المصري سيد حجاب بجائزة الملتقى، معتبرين أن شعر العامية لا يرقى إلى المنافسة، فضلًا عن حديث حجازي عن قصيدة النثر وقوله "إنها تحتاج إلى عمل أكثر ونشاط في الإبداع والنقد حتى تصل إلى القارئ، وعندها تستطيع أن يكون لها جمهور وممثلون، وبطبيعة الحال تفرض نفسها على أي ملتقى أو مهرجان".

هذا الموقف العجيب تجاه الأنواع الشعرية، فطن له كثير من المدعوين فأعلن عدد من الشعراء اعتذارهم عن حضور الملتقى، منهم عبدالمنعم رمضان وجمال القصاص وفاطمة قنديل، التي رفضت أمانة المؤتمر بحثها عن جماليات قصيدة النثر قراءة في قصيدة عماد أبوصالح، فهو ليس فقط عن قصيدة النثر المغضوب عليها ولكن عن عماد أبو صالح أيضا! انضم إلى قائمة المعتذرين اللبناني عباس بيضون والسوري أدونيس وغيرهما من مصر والعالم العربي، وعللوا رفضهم تلبية الدعوة لما اعتبروه، سياسات يتبعها الملتقى تتمثل في الإصرار على تقديم الوجوه الشعرية "الكهلة" في مشهد الملتقى، وتحكمها في مساراته واستبعاد وجوه أخرى تمتلك موهبة شعرية ذات حساسيات جديدة لا تؤمن بها تلك الأجيال المهيمنة على فعاليات الملتقى. وهي توصيفات تلخص ما وصل إليه حال الشعر المصري في الفترة الأخيرة.

الشاعر عبدالمنعم رمضان كان أكثر وضوحاً، وعلل اعتذاره عن المشاركة في الملتقى بأنه غير معبّر عن مآلات الحركة الشعرية في مصر والعالم العربي، وإنما يعبر عن انهيار مؤسسات الثقافة نفسها، ودعا رمضان إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية "ما دام سقفها الواطئ أقصر من قامة أصغر شاعر أو روائي أو كاتب أو قارئ".

وقال إن المؤسسة الرسمية تصر كل يوم على التخوين، بإغلاق أبواب الرؤية في وجوهنا، بإغلاق السماء، وإغلاق حتى الأرض، وتتخلى عنا عبر دفاعها الوهمي والكسول والمتواطئ، دفاعها الذي لا يصمد أمام الحقيقة، الذي ينحني ويذعن أمام رياح السلطات، لأنها "محض جهاز من أجهزة الدولة الإيديولوجية".

ووجه رمضان تحيه إلى عباس بيضون :"فالشاعر العربي الذي سيقبل عضوية لجنة تحكيم مؤتمر شعر يخاف من الشعر، سيعلن بقبوله أنّه لا يعترض كفاية على سجن الروائي أحمد ناجي، لا يعترض كفاية على الشروع في سجن آخرين مثل أحمد ناجي، سيعلن بقبوله أنه يوافق على إهانة ثقافتنا واضطهاد مثقفينا، سيعلن بقبوله كراهيته لنا، ومحبته للنور الميت، وللمصابيح المعتمة".

الأبنودي نفسه كان واعيا لما تلاقيه القصيدة على يد كهنة الشعر في مصر، فكتب ما يشبه الرثاء في تقديمه لمختاراته: "صمت شعر العامية ورحل شعراؤه أحياء وأمواتا فعلى ما يبدو أن هذا النوع من الشعر معلق بمصائر الكون ومفارقاته وتربطه بتلك المصائر أواصر".

لكن الأبنودي رغم ذلك، استطاع أن ينتزع من الدولة اعترافا بشاعريته، وقبلها اعتراف قطاع عريض من الشعب المصري والعربي، ليس فقط من خلال القصائد ولكن أيضا لدوره في تطوير الأغنية المصرية، حيث أنشأ مدرسة غنائية جديدة، بدأها بـ"آه يا ليل يا قمر" و"تحت الشجر يا وهيبة" و"عدوية"، إلى "شباكين ع النيل عنيكى" و"أحضان الحبايب" و"الهوى هوايا" وحتى الأغاني الوطنية التي حرك بها وجدان الشعب العربي كله. انتزع الأبنودي اعترافا بالشعر العامي، الذي ظل طوال الوقت محط أنظار الجماهير، وبعيدا من التكريم الرسمي، والتقدير المؤسسي، حيث لم يستطع لا فؤاد حداد ولا صلاح جاهين، ومن قبلهما بيرم التونسي، أن يحصلوا على جوائز الدولة، لذا عندما حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية، قيل إنه حصل عليها معه حداد وجاهين والتونسي، وكل شعراء العامية في مصر، لقد فتح الأبنودي الباب لشعراء العامية لكي ينالوا التقدير الرسمي الذي يستحقونه، لكنه فشل –حتى الآن- في الحصول على رضا كهنة المعبد الشعري المصري!

في البورتريه الجميل الذي كتبه عنه الراحل خيري شلبي يقول: "نظلمه ظلما فادحا إذا قلنا إنه مجرد شاعر كبقية شعراء جيله، ونرتكب جرما في حقه –كدارسين للشعر- إذا اتخذنا من العامية ذريعة للانتقاص من قيمته".

قال إنه وثيقة حية على أن الجنس المصري الفرعوني لم ولن ينقرض، وأنه في كفه وجميع شعراء جيله في كفه، وانه ابن مصر كلها، وانه من أقوى المؤثرين في القطاعات العريضة من جماهير الشعب.

لكنه رغم ذلك كله يغيب -بقرار رسمي- عن طلبة المدارس، كما يغيب أيضا عن مؤتمرات الشعر في بلد العجائب!