حكايات الريح لغسان سلهب

ترجمة روجيه عوطة
الثلاثاء   2017/01/24
من عمل فيديو لغسان سلهب بعنوان "صورتك"
"خطران لا يتوقفان عن تهديد العالم: النظام والإختلال" (بول فاليري)
1.
إذاً، ما هي المرآة؟ بحسب البعض، هي بمثابة بئر، بئر بلا قاع، السقوط فيه لا قيد له. وهي، بحسب البعض الآخر، الشيطان على الأغلب، جحره، ومسكنه. وهي، بحسب غيرهما، ضرب من الغياب. الدليل على كل ماهياتها هذه هو ملء فراغها، أو فراغ ملئها. إنها وسيلة تعذيب خالصة. إنها الجميلة والوحش. ولكن، وبتعريف أقل شأناً، ومسوخيّ، المرآة هي الإنعكاس المقلوب للمرئي وعالمه، كما أنها رفيقة الضوء، الذي بمقدورها أن ترده، ورفيقة اللحظة أيضاً.

الآن، تخيلوا دائرة ترتسم على تمامها ومن تلقائها، وتخيلوا أننا في وسطها، في نقطة مركزها، حيث من الممكن للبيكار أن يثبت رأسه المدبب في مكاننا. وهذه المرآة، التي تقترن بالخط الدائري، تقوم بمقلبين، أولهما مصوب إلى داخل الدائرة، التي كنا قد استقرّينا في محورها، وثانيهما مصوب إلى خارجها. كل مقلب من المقلبين يلزم تحاشي غيره بظهره، ولا يعكس سوى ذاته. بذلك، هما ينتميان إلى العالم نفسه، وينتميان إلى عالمين مفصولين، ومختلطين.

لا شك أن اليسير، في الأساس، هو بغية الإنتقال من مقلب إلى ثانٍ، واليسير هو أن يعكس كل منهما ذاته في مواجهه، كأننا بين نرجسيتين مستهيمتين. وهذا ما لا يمنعنا سوى عن تمكننا من الإنشطار في وقتٍ محدد. على أننا، في المقابل، نستطيع أن نتخيل كوننا على التخوم، على كفاف البصر، نتخيل أننا لامرئيين أمام كل انعكاس، بحيث يهددنا اختفاؤنا تحت عيون العالم، ويهددنا تحولنا إلى دليلٍ، لن يتجسم البتة.

2.
الإقامة في الثبات، الإقلاع عن الحركة، الإمساك بالأصل. الأرض شاهدة. محور غير محتمل، شجرة غير محتملة. من الرياح الأربع، من تقلبات العراء، ومن الأوجاع الأخرى، من الدفقات، ومن الإنحسارات، من الإنبساطات، ومن الثنيات، من العزائم. هل ترى، قال لي واحد منا، أن الزمن هو ساعة يد بلا عقارب، بلا أرقام، بلا وقت. يتقدم  بالتوازي مع تراجعه، يلتف كحلقة، ويتخثر أيضاً. يبدأ، وبالفعل هذا، ينتهي، أو، ربما، لا يبدأ ولا ينتهي. إنه مسألة إيقاع، أضاف، ومسألة وفاق.

بماذا عليَ أن أجيب؟ على أي إعراب أتكئ؟ ماذا عن الكلمة؟ ماذا عن الكلام؟ أي تجسيد؟ الليل هو النهار، والنهار هو الليل، الشمال هو الجنوب، والجنوب هو الشمال، القارة هي الجزيرة، والجزيرة هي القارة. ميل جنوني. نعم، هذا المحور الشديد، هذه النقطة اللامتناهية في الصغر، اللانهائية، مصدر المسمى كَوْناً، مجموع الموجودات، عموم الكائنات والأشياء التي كانت، والتي تكون، والتي ستكون. رحابة بلا عاقبة، حيث مقولتي الحدّ والتوطن بلا طائل. لكن، ماذا يعني كل هذا؟ على حساب مَن يستوي الكسب؟ ما هو هذا الإكتساح المستمر الذي يخلق خطاب الموطن، ومقولة الموطن، بجعله مهجوراً؟ إنها معضلة حقاً.

3.
تغدو الهوية هذا المسار. الـ"مَن أصير؟" بدلاً من ومكان الـ"مَن أنا؟"، استحالة بلا غاية في خلاصتها، أو لنقل أنها الغاية بحد ذاتها، غايتنا، التي لا تعد غاية ككل الغايات، لكنها الأكثر غائية بينها. وهذه الهوية هي هوية جماعية وفردية، متعددة، ومقللة، ومشتركة، بمعنى المشاع والكوموني على وجه الدقة. هذه النقطة اللامتناهية في الصغر، الأولية إذاً، التي لا يتوانى الموطن وهوياته، الخارج والداخل، عن الإبتداء والإنبساط منها، بحيث أنها مشتركة وخاصة، داخل وخارج الدائرة على حد سواء.

"أفضل ألا.."، يردد بارتلبي بعناد. عبارته هذه هي عبارة هوياتية بوضوح، ذلك، أنها تثبت كل شيء بالإعتراض، وتتحرك بين كل شيء بالتجمد. وهذه الكلمة: عربي. بحسب البعض، يشير جذرها، أي عرب، إلى الصحراء، مثلما أنها، وفي أصلها، كلمة عبرية، أي عربة. الكلمة مشتقة من الجذر السامي أبحر، "تنقل". لكن، الإتيمولوجيا العربية تعتقد بأن كلمة عرب مشتقة من فعل "عبّر". وجدتُ كلمة عربي في مخطوطة أشورية، ترجع إلى العام 853 قبل ميلاد يسوع الناصري. اسم المكان، عربية، سجله هيرودوت باليوناني. ولاحقاً، أفسح الكتّاب اليونانيون واللاتينيون معنى الكلمة، التي يدلّون بها على اسم المكان، فوصفوا سكانه بكلمة عربي.

هذه الكلمة، عربي، تعني "إنسان الصحراء" أو "عابر الصحراء"، وبهذا، تمثل الهوية البدوية مباشرةً، أي مجموع القبائل البدوية والرعوية في شبه الجزيرة العربية. التعبير، التنقل، التعبير بالتنقل. إنها البداوة التي لا يمكن أن تحل بلا غاية (على عكس هذا الإكتساح المتواصل، الحدود الموطنية لكوكبنا جلية التعيين، لكنه، أي هذا الإكتساح، لا يكسب شيئاً على حساب المسكونة، بل يشكل جزءاً منها فقط). على أن العبور توقف، وأضحى رسوخاً، ثباتاً، إقامةً على حد القول، كما أن موضعه الأساس، الإنعكاس المقلوب للمغامرة الإنسانية في مجملها، لم يولد سوى مبدأ الملكية. هذا المبدأ، وبمَحقِه كل شيء، أفضى إلى مقولة بعينها: الأوحد.

4.

من انحراف القارات، من الهجرات الكثيرة التي أقدمت عليها الأنواع الحية، مما يدعى التطور، من الآثار المكتشفة، بلا وعد أو قصد، من العظام، البُراز، الرماد، الأدوات، الآلات، المغاور، الرسوم، الألوان، أجواف الأبنية البدائية والأقل بدائية، النقية والأقل نقاءً، الكسرات، الطبقات... بكل هذا، وبإرهاق، نسأل عما يمكن أن نركّبه، أي قصة، أي أسطورة من الممكن سردها، أسطورة مَن، وإذا رويت، فلمَن، وبالإنطلاق من أي منظور؟ يتزاحم الظل مع الضوء، ذلك، أنهما، منذ البدء، في معركة شرسة، تماماً، على ما هي حال الزمن والفضاء.

5.
يُقال إنه لاستعارة أي طريق، نتنازل عن الكثير من الطرق، وفي أغلب الأحيان، نسرع إلى التنازل عنه، أكان بأناة أم لا. ثمة الكثير من الطرق التي يحجبها الغبار، والعشب المجنون، والمباني، حتى تصبح مجرد أنهر، ولما لا تجد مضطجعها، تنتهي بسيلانها إلى النضوب والتجفف. تشكل الدولة-الأمة مجموع هذه التنازلات، مثلما تشكل أثرها، والمؤتمن عليها، بحيث أنها المقام والمقبرة على حد سواء. حتمياً، سيلتقي "عابر الصحراء"، وكغيره من الرحالة قبله، سيلتقي بـ"التقدم"، ولن يحصل العكس. مخترق من جانب إلى إلى آخر، يضطرب في علاقته وصلته بالزمن والفضاء الملتحمين، بالآخر والموطن، بالسماوات والمحسوسات، باللانهائي والنهائي، بالكلمة والشعر، بالمشيئة والتمكن. كل ذلك، سينقلب، سيصيبه الضلال، سيرتد أبداً. إنها زلة عين، وزلة موت طبعاً.  فما عاد "عابر الصحراء" يجتاز، ويقطع، ويمر. وهذا أضعف العوارض وأقلها.

6.

يبدو الباسبور القسط النبيل من أي إنسان. يُصنَع الباسبور بطريقة أسهل منه. بمقدورنا أن نصنع إنساناً أينما أكان، بتهور وبلا أجل حصيف. أما الباسبور، فلا. مثلما أنه بمقدورنا أن نعيّن قيمة هذا الباسبور الجيد أو ذاك، لكن قيمة الإنسان، أياً كانت، من الصعب أن نتعرف عليها. ماذا يقول برتولت بريشت في حوارات المنفيين غير أن هوية الإنسان هي التي يستدعي حضوره بها، كما أنها تستدعي حضوره أيضاً، وتحدده. إنها فعلياً، الداعي للضحك منه.