"أورشليم"... الأدب الذي يفضّله ساراماغو

وجدي الكومي
الإثنين   2017/01/02
جونسالو إم تفاريس.. الأدب الذي يهدد القارئ
"سطع اسم جونسالو إم تفاريس في المشهد الأدبي البرتغالي، لتمتعه بخيال خصب تجاوز كل حدود الخيال التقليدي، هذا إضافة إلى لغته الخاصة، التي جمعت بين جرأة الصك، وبراعة استخدام العامية، مما يدفعني للقول ومن دون أي قدر من المبالغة، مع كامل الاحترام للشباب من روائيي البرتغال اليوم أن جونسالوم إم تفاريس مرحلة يقف عندها الزمن، هناك مرحلة سبقته، وأخرى تلته، تنبأت أنه سيحصل على نوبل خلال ثلاثين عاما، إن لم يكن قبل ذلك، وأنا على ثقة من نبوءتي، أسفي فقط على إنني لن أكون على قيد الحياة لأمنحه أحضان التهنئة".


بهذه الكلمات منح جوزيه ساراماغو صك العظمة والتفوق في حقل الأدب للكاتب البرتغالي جونسالو إم تفاريس، صاحب رواية أورشليم التي صدرت ترجمتها في القاهرة مؤخرا، عن دار "مصر العربية" للمترجمين محمد عامر وأحمد صلاح الدين، وهي الكلمات التي وضعها الناشر في غلاف الرواية، وكذلك في أولى صفحته، كما أنها الكلمات التي جعلت هذا السؤال يرافقني طيلة القراءة: ما هو الأدب الذي يفضله ساراماغو؟

جونسالو إم تفاريس المولود العام 1970، يتأمل في تاريخ الشر ويحلو له أن يضع رواية عن فلسفته، عبر بطل العمل الرئيسي الطبيب النفسي ثيودور باسبيك، يحلل جونسالو إم تفاريس  في عمله "أورشليم" التي يظنها البعض رواية عن مدينة "أورشليم"(القدس) لكنها ليست كذلك-  أسباب الوحشية الإنسانية، يبحث في تاريخ المذابح، يطالع كتباً تزخر بصور الجثث، والمقابر الجماعية، ويقترن إلى جانب ذلك بمريضة نفسية هي ميليا، التي تزعم أنها قادرة على رؤية الأرواح.

يرغب ثيودور في إيجاد صيغة، تضع السبب الحقيقي وراء الشر، الذي يرتكبه الإنسان من دون سبب، يفكر في عمل تخطيط رسم بياني يلخص العلاقة بين التاريخ والوحشية، لا يجري بحثاً عن الحروب التي خاضها البشر، إنما يدرس الحالات التي وقف فيها أحد الأطراف عاجزاً دون مقدرة، أو حتى رغبة، في إلحاق الضرر بالطرف الآخر. يرغب الطبيب النفسي في التوصل إلى بيان للرعب، لاكتشاف شيء جوهري في مشكلة الوحشية الإنسانية، التركيبة الأساسية، يقول لميليا: علينا أن نفهم كيف ارتكبت كل هذه الأعمال الوحشية بلا خوف؟

لكن فرضيته التي سيتوصل إليها في النهاية، ستتلخص في عبارة: أن البشرية لن تكف عن التنكيل ببعضها البعض. يضع ثيودور بحثاً، قسّم فيه العالم إلى شعوب معرضة بشكل كبير للمذابح في القرون المقبلة، وشعوب ستتسبب في ذبح الشعوب المستضعفة. إنها نظرية مضحكة، ستثير سخرية الكثيرين منه، وستجلب عليه هجوم العلماء وسيصفه بعضهم بأنه مجنون، وسنتهي مآل بحثه إلى ما يشبه محلات الانتيكا.

وعلى الرغم من أن فرضية الطبيب النفسي بطل الرواية، تمتلئ بالعديد من المقولات المشجعة لتحقيق نتيجة عملية في نهاية بحثه، ومنها: "يزداد وضع العالم سوءاً، تراجعاً، يطور بهمة أمراض جديد، ضعف جديد" لكنه لا يتوصل إلى مبتغاه، وهو الاطمئنان على أن العالم سيستقر وينتهي منه العنف. يقول ثيودور: "خوفي الكبير أن القضاء على الرعب يعني القضاء على تاريخنا، مثل الخط المستو لرجل مات للتو. ينتهي التاريخ على أي حال، حينما يلتهم الرعب المطلق كل شيء".

يدفع ثيودور استقراره الأسري ثمناً لفرضياته، ولرغبته في معايشة الألم والرعب، لا دليل كبيراً على ذلك إلا باقترانه بميليا، التي يكون واضحاً أن حالتها العقلية لا تتحسن، ما الذي يدفع طبيب نفسي إلى الزواج بفتاة مصابة بالفصام؟ تسأله ميليا، ويحاول ثيودور إقناعها مراراً وتكراراً بأنها مخطئة: أنا الطبيب هنا. أنا من يقرر إذا ما كان الناس مرضى أو أصحاء. لكن مسار الرواية يثبت أنه على خطأ، ميليا مريضة بالفصام، ومرضها لا يتحسن، تتعرض في صغرها لنوع غريب من القمع، تقمعها أمها بمنعها من لمس الأشياء المادية بطريقة توحي بالفعل الفاحش، تقول لها: ليس من اللائق أن تلمسي الأشياء هكذا، فتسألها ميليا: كيف ألمسها إذاً؟ فتجيب الأم: لمسة بسيطة من دون إمساك، من دون تورط. يضطر ثيودور لإدخال ميليا إلى مصح نفسي يشرف عليها زميله الدكتور جومبرز، الذي يعالج مرضاه بالتحكم في أفكارهم، إلى أين يجب أن يوجه الفرد تفكيره كي لا يعتبره الآخرون مريضاً عقلياً؟

تنفتح الرواية على مسارات متشابكة من مساءلة النفس الإنسانية، والقمع الذي تتعرض له حتى تحت مسمى العلاج النفسي، فالدكتور جومبرز يرى أن الشخص الذي يتصرف بطريقة غير أخلاقية، هو شخص مجنون، نظريته هي أن الأفعال تنبع من الأفكار، والأفعال غير السوية دليل على التفكير الخاطئ. بهذه النظريات، يدمر جومبرز حياة ميليا، ويدمر حيوات مرضاه الآخرين، ومنهم "إرنست" الذي يتورط في علاقة جنسية مع ميليا في المصح، ينتج عنها طفل مشوه، هو كاس، الذي يقرر ثيودور أن يضمه إليه، ويمنحه اسمه، لكن بعد أن يطلّقها. فيما يجري لها جومبرز عملية جراحية لإزالة رحمها، كي لا تحمل ميليا مرة أخرى من علاقة جنسية مثل تلك التي حدثت مع إرنست.

يقدم جونسالو إم تفاريس مشهداً في الشارع، يجمع فيه أبطال روايته الرئيسيين "كاس" الطفل وميليا" الأم وإرنست الأب وثيودور، مع أبطال ثانويين هينريك السفاح القبيح، الذي يخشاه الناس، وهانا العاهرة التي يكتشف ثيودور قبحها، حينما ينفرد بها. يروي جونسالو إم تفاريس روايته بأسلوب المشاهد المتناثرة، يقدم أحداثا على أحداث، ويؤخر ذروة العمل إلى النهاية، بعدما جعل جزءا منه في مشهد الاستهلال، حينما نزلت ميليا إلى الشارع فجرا، تتألم، وتبحث عن كنيسة، وتكتب على جدرانها كلمة "الجوع". تأتي كل شخصية ومعها حكايتها، ولا تلتئم الخيوط إلا في منتصف العمل. نكتشف كيف ينتهي كل منهم إلى لا شيء، فتتورط ميليا في اتهام قتل هينريك وتدخل مصحاً عقابياً آخر، بعد مصح جومبرز. ويهرب إرنست وهو الفاعل الحقيقي، بعدما ضغط زناد مسدس هينريك ليرديه على الفور، قبل المقابلة بساعات، كان هينريك قد التقى الطفل "كاس" في الشارع، الذي غادر بيت ثيودور بحثا عنه، واستدرجه إلى زاوية مظلمة، وقتله بلا سبب مفهوم.

إنها لعبة القتل المجانية، التي يعجز "ثيودور" عن تفكيكها، والبحث عن أسبابها، إنها لعبة الرعب الهائلة، التي لا يجد لها تفسيرا، بينما يبحث "ثيودور" في أحد النصوص التي وضعها جونسالو إم تفاريس على مقربة منه، يجد هذه العبارة: "قال أحد الناجين من معسكرات الاعتقال: البشر العاديون لا يعرفون أن كل شيء ممكن" .

وحينما تنتهي الرواية، لا ندري لماذا أسماها مؤلفها "أورشليم"، إنها ليست رواية عن المدينة، لكن الفرضية التي وضعها البطل "ثيودور" عن الشعوب الضعيفة غير القادرة على مقاومة أو حتى تهديد جيش معادٍ، ربما تجيب على هذا السؤال، يقول ثيودور: تاريخ الرعب ما زال في مهده وفي القرون المقبلة سنصبح ضحايا مجازر أخرى، سنشهد موت مليارات البشر.
هذا هو الأدب الذي يحبه ساراماغو.. الأدب الذي يهدد القارئ.. ويشعره بالرعب من المستقبل.