كريمة مختار.. دائماً "الأم" لكنها دائماً مختلفة

وجدي الكومي
الجمعة   2017/01/13
في وقت مبكر بدأت كريمة مختار تجسد دور الأم.. لكنها حفرت مدرستها في الدور ذاته
ظننتُ في لحظة حينما سمعت نبأ رحيلها، أن في فترة ما من حياتها، لعبت كريمة مختار أدواراً غير تلك التي ظهرت فيها بدور الأم، أو الزوجة ربة الأسرة، المسؤولة عن أبناء عديدين.. دور فتاة عاشقة، أو حبيبة يُغدر بها.. أي أدوار مختلفة عن الصورة النمطية التي ظهرت بها دائماً.

من بين أعمالها العديدة، تحتفظ لها ذاكرة السينما بفيلم "ثمن الحرية"، الذي صوِّر العام 1967، حينما كانت السينما المصرية تسخّر عتادها للهجوم على الاستعمار، والدول الكبرى المناهضة لمشروع عبد الناصر ومشروع السد العالي. لعبت كريمة مختار دوراً بارزاً في الفيلم، إلى جانب عمالقة أفذاذ وقتها، هم محمود مرسي، وعبد الله غيث، وآخرين. ظهرت في صورة الأم أيضاً، لطفلين، يُقبض عليها من الشارع مصادفة، وتُزجّ، مع خمسة مصريين آخرين، في سجن الاحتلال الإنكليزي الذي يطارد فدائياً نفذ سلسلة عمليات لطرد المستعمر. المدهش في ذلك الدور الذي أدته كريمة مختار باكراً، أنها ظهرت أيضاً في دور أمّ شابة، كأنها منذ البداية كانت تحاول أن تحفر لنفسها صورة في هذا الدور، لمنافسة فردوس محمد، وأمينة رزق.


حينما عدت لمشاهدة الفيلم، وجدت نفسي أمام تنويعة مبكرة للغاية، تقدمها كريمة مختار للأم المصرية. الأم التي تجد نفسها في مأزق، بعيداً من أبنائها، رهينة قائد إنكليزي شرس، يستخدمها للضغط على رهينة أخرى، كي يعترف بمكان تواجد الفدائي. وعلى الرغم من قِدَم الفيلم، إلا أنه بشكل ما، مفتاحيّ لفهم شخصية كريمة مختار، ولماذا لعبت كل هذه الأدوار المتماثلة، باختلافات تكاد تكون طفيفة، عبر مسيرتها الحياتية، حتى رحيلها أمس الخميس 12 كانون الثاني/يناير، عن 83 عاماً. كانت الراحلة تشيّد ما يشبه المدرسة بخطوات تراكمية، عبر تأدية الدور نفسه، بملامح وتنويعات مختلفة.

ننتقى هنا عينات متتالية من أدوارها، لاستبيان معالم طريقها الذي سارت فيه بصبر، جعلها لا تستنكف أبداً عن أداء الدور نفسه، لكنها تبرع فيه كل مرة. ففي فيلمها "يا رب ولد"، الذي أدت فيه شخصية الأم "كريمة"، والتي يحلم زوجها، فريد شوقي، بإنجاب الولد، لعدم رضاه عن سلوك بناته الشابات الجامحات، تكاد كريمة مختار تكون شخصية على هامش العمل الذي يزخر بتكتيكات كوميدية أبطالها سمير غانم وأحمد راتب. تسترد كريمة مختار صدارة العمل، وتجذب نحوها الأضواء، حينما تعلن لزوجها المشتاق أنها حامل. يقترب فريد شوقي من تحقيق حلمه في إنجاب الولد، لكنه يكتشف أن حَمل كريمة كاذب. الشخصية التي تؤديها كريمة مختار في هذا العمل هي الخيط الذي يتركه كاتب القصة حتى النهاية ليشد به الخيوط كافة، إنها الأم البطلة.


وفي فيلمها "الليلة الموعودة"، تلتقي كريمة مختار مرة أخرى مع فريد شوقي، لكنها هذه المرة تلعب دور "بهية"، أم أحمد زكي، الشاب الموتور مهرب البضائع عبر ميناء بورسعيد، يُفاجأ أن الخاطبة تجلب لأمه بهية، عريساً نصاباً، تتزوج بهية من النصاب، الذي يؤدي دوره فريد شوقي، ثم لا يلبث أن يستولي على أموالها. ينتقم لها نجلها "أحمد زكي"، باستمالة قلب ابنة النصاب، والتغرير بها. هنا أيضاً قصة مماثلة للدور المحوري الذي لعبته كريمة مختار، هو الدور نفسه، أي الأم، لكنها همزة الوصل الدرامية، بين قطبي الصراع، ابنها، وزوجها النصاب.

إنها ليست أدواراً هامشية كما نرى، هو الدور نفسه، بتنويعات أضفت عليه أهمية ومعنى. ففي المسلسل المعروف "رحلة السيد أبو العلا البشري"، يتوجه محمود مرسي إلى أسرة "نعمات"، التي تؤدي دورها كريمة مختار، لحل أزمات أسرتها. إنها الأم التي لا تستطيع السيطرة على أبنائها، أحدهم يرغب في أن يصبح مغنّياً، والآخر ينعزل عن الأسرة بعد نجاح مشروعه. نعمات هي الوطن، الذي يبحث عن مخلص، بعدما عانى أبناؤه، وتشتتوا. نعمات تميل إلى "أبو العلا" ويقترنان في نهاية الرحلة. هذه هي الرحلة التي من دونها لن تصلح، ولن يكون لها معنى، الذكر والأنثى.

هي "حكمت" في المسلسل المعروف "البخيل وأنا". الزوجة تعيسة الحظ، المقترنة بالبخيل "فريد شوقي". ربة المنزل الصابرة على زوجها وشحّه، تداوي أفراد أسرتها بينما يذهبون أمامها ويجيئون في ملابس رثة. تصبّرهم على عيشة بائسة، وطعام متكرر قوامه الفول، والبُصارة، والطعمية. تكرر عبارات: يا ريت كان بإيدي يا بني.. فيقول لها وائل نور: أومّال بإيد مين يا ست حكمت؟

وفي عملها المسرحي المعروف "العيال كبرت"، تُشيّد القصة كلها حول محاولة الأبناء مواراة خبر زواج الأب، عن "زينب"، أمهم. يحاولون بشتى الطرق استعادة الأب، من دون أن تشعر أمهم بالكارثة المقبلة، وهي هَجْر زوجها لها، وخيانته لها مع أخرى. يقنعونها بأن يأتي التغيير من داخلها، تارة بأن تدخن السجائر، وتارة أخرى بأن تتزين لزوجها. إنها الحبكة القائمة على دور كريمة مختار في هذا العمل المسرحي، على الرغم من قلة مشاهدِها فيه، وعدم استطاعتها منافسة سعيد صالح ويونس شلبي في إطلاق الإيفيهات المسرحية المتتالية. لكن الحبكة تلتئم في النهاية، بمشهدها وهي ترتدي ملابس جديدة غير معهودة، وتخرج لتستقبل الأب العائد.


وفي مسلسل "يتربى في عزو"، هي الأم التي تدلل ابنها الوحيد يحيى الفخراني، وتتسبب في فساد حياته بدلالها الزائد. إنها "ماما نونا"، الأم الأشهر في المسلسلات المصرية الحديثة، لكنها مع ذلك ليست مجرد أمّ، فهي أمّ لرجل تخطى الكهولة بعقدين، أتمّ عامه الستين، ولم يزل لاهيا،ً عابثاً، وتظل علاقتهما أشبه بعلاقة أمّ بطفلها المراهق. تجعله يقترب من أبنائه، وتحثه على لمّ شملهم. لكن نزواته تتفوق على نصائحها له. وحينما ترحل فجأة، يجد نفسه وحيداً، ذاهلاً عن الحياة، هي لب الحبكة الدرامية، وهي عمادها.

وفي الفيلم السينمائي الشهير "الفرح" (إنتاج 2009)، تكون "أم زينهم"، كريمة مختار، هي موقظة الضمائر من غطيطها، بكلماتها الموجعة، تعيد الراقصة إلى رشدها، تقول لها: اديكي المية وخمسين جنيه اللى بتاخديهم في الفرح.. تحثها على ألا ترقص في الفرح "النقطة" الذي يقيمه ابنها زينهم لجمع المبلغ اللازم لشراء الميكروباص. وحينما تغضب عليه، لأنه جلب راقصة، يصفعها ابنها العاق بالنقود في وجهها. الدراما تدور حول أم زينهم، حينما تباغت الفرح الدائر بوفاتها، يصطف الممثلون في تشكيلين حول جثمانها، في مشهد مهيب، يقنعون ابنها زينهم بألا يعلن وفاتها، يتلقون جميعاً جزاءهم، كل على طريقته. إنها جوهر الدراما، ودورها مختلف عن كل الأدوار السابقة، على الرغم أنها لعبت أيضا دور "الأم".