فاتنات روسيات3: ليديا محظية هنري ماتيس
والسؤال هو: هل كانت الروسية ليديا دلكتورسكايا، بديلاً من المحظية الطنجاوية؟ وإذ كان طيف الطنجاوية حاضراً في اعمال ماتيس، فالشابة الروسية "الغريبة" عن الديار الفرنسية، حاضرة في حياته وأعماله، وهي ملهمته الرئيسة...
ولدت ليديا في تومسك في سيبيريا العام 1910. وأنهكت الحروب الأهلية الروسية عائلتها الصغيرة وجعلتها يتيمة في عمر الثانية عشرة، فوجدت نفسها فجأة امرأة ناضجة في جسم طفلة ضائعة، اضطرت للعيش مع عمتها التي قبلت بها على مضض، وانتقلت معها الى الحدود الصينية هرباً من المعارك. تابعت هناك دروسها في المعهد الروسي، إلى أن قررت العائلة التوجه إلى باريس العام 1929، وهناك تزوجت لفترة قصيرة من روسي وسرعان من انفصلت عنه. قررت الإمساك بزمام حياتها وحدها، فغادرت باريس إلى مدينة نيس حيث أمضت عامين من الفقر المدقع، تعمل سراً كعارضة في محترفات رسامين غير معروفين... إلى أن التقت مصادفة، العالمي ماتيس، الذي كان يبحث عن مساعدة في أعماله. فدخلت في خدمته كمساعدة في المحترف، بموافقة زوجته آميلي، وتحديداً في تشرين الأول 1932 حين كان عمله يرهقه وكان في صدد تنفيذ لوحة "الرقصة" الضخمة التي طلبها منه د.بارنز من أجل مؤسسة في فيلادلفيا.
في الأيام الأولى، عملت ليديا كمساعدة، إلى أن لاحظها ذات يوم تعبة وهي مسترخية في وضعية الجلوس على كرسي، وهي تضع ذراعيها فوق بعضهما البعض، ورأسها فوقهما لترتاح قليلاً. هذه الوضعية سحرت ماتيس، وربما حركت في مخيلته اللحظة الاستشراقية والحريمية. بدأ تعاون ماتيس - الستيني، وليديا - العشرينية، إدارياً، وسرعان ما تطور، وتحولت من مساعدة إلى عارضة عارية. هي علاقة فيها شيء من التعقيد، وشيء من الرواية الدرامية والرومانسية والحب الغامض والغيرة المستفحلة والبراغماتية. عملت ليديا طوال سنة كاملة كمساعدة للفنان العالمي، قبل أن تصبح مرافقة لزوجته المريضة. فكانت تأتي صباحاً إلى منزل آل ماتيس وتغادره مساء... إلى أن طلبت منها الزوجة أن تسكن مع العائلة التي لم تعد تستطيع التخلي عنها بسبب تفانيها في العمل... وتولت ليديا آنذاك، مهمتين: مساعدة منزلية للزوجة، و"موديل" للرسام الذي أصر على دفع راتبين لها. رسم ماتيس ملهمته الروسية أربع ساعات يومياً، لفترة لاحقة امتدت سنتين، من 1935 الى 1937، ونتجت عن هذه الفترة أجمل لوحاته الزيتية. فهو كان يشتري الفساتين المميزة، باهظة الثمن، لترتديها هي، ويرسمها هو، ولا يختلف مسارها عن مسار النساء اللواتي اختُصرن في فتاة طنجة، وان كانت تعيش معه. وهو كان يقول "إن الموديلات (التي يحب أن يرسمها) هي قبل أي شيء آخر كائنات بشرية من لحم ودم، وليست مجرد ديكورات اضافية ملحقة بالمشاهد الداخلية. وهذه الكائنات البشرية هي، بالتحديد، الموضوع الأساس لعملي. إن أشكالها قد لا تكون متكاملة، غير أنها وبكل تأكيد كائنات دائمة التعبير ومتكاملته. أما الأهمية العاطفية التي توقظها النساء لديّ، فإنها قد لا تكون في الضرورة في حاجة الى ان تكون مرئية عبر اسلوب تصوير أجسادها"... (للتذكير كان ماتيس في مرحلة ميالاً الى الأشياء، وسرعان ما اهتم بالعنصر البشري، خصوصاً من خلال رسمه ألوان طنجة).
ليديا كانت أكثر من مجرد محظية، الأرجح انها كانت تُشبع جموح الفنان، تُرضي "أناه" الفنية. فالشابة الروسية الهاربة من جحيم الثورة الروسية، كانت تشرف على كل تنظيم معارضه وتحضير المحترف يومياً للعمل، الى جانب تنظيم لقاءاته بالفنانين والصحافيين. اهتمت بكل التفاصيل المزعجة في حياته. دفعت الفواتير، استقبلت الزوار، نظمت شؤون المنزل... بقيت "الموديل" المفضل لديه، عشرين عاماً، أي إلى حين وفاته. بدأت علاقته بها بخطوة، وتوسعت لتصل الى حدود الحب الافلاطوني. فكانت الزوجة والملهمة والحبيبة ومديرة الاعمال. والبعض يرى أن الملهمة ما هي "سوى امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحياناً عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة"...
علاقة ماتيس وليديا بقيت لغزاً غامضاً حتى اليوم. عاشا تحت سقف واحد عشرين عاماً، ومعاً لأكثر من 18 ساعة يومياً ولم يتزوجا، لكن غيرة الزوجة لم تحتمل، وذاب الحب في التعاون والتبست الأمور وبدأ آل ماتيس بالتفكك. آميلي الزوجة تحضّر للفنان نوبات الغيرة، وهو الزوج الفنان يهرب منها نحو المحترف ليمضي غالبية وقته إلى جانب ليديا والألوان والعري والاسترخاء الحريمي. كأنه فضّل الألوان على الحياة الزوجية، فضّل جانباً من الخيال على الواقع. فضّل ليديا بشكل غير معلن. فالنساء بالنسبة إليه، هن الكائنات التي تعبر عليها الألوان، هن أدوات لاستكمال لوحاته، يتحولن كائنات لشغفه بالألوان، هن اللوحات بحد ذاتها...
ولما فشل ماتيس في التوفيق بين حياته المهنية والعائلية، قررت اميلي مغادرة منزلها الزوجي، وبقيت ليديا كأنها وجدت لتكون لوناً أو لوحة. كانت تقرأ له القصص مساء عندما يشعر بالأرق وتستقبله بقهوته الصباحية مع ساعات الفجر الأولى. كتبت مذكراتها اليومية عنه، فزوّدها بكل المعلومات والصور التي أصدرتها في ما بعد في كتابين اختصرا حقبة مهمة من تاريخ ماتيس الفني. تقول ليديا في كتابها "القرابة السهلة": "يحتاج فن ماتيس دوماً إلى استثارة الحماس والحيوية والرغبة الشبقة للحياة والضوء وزخارف الزهور والفواكه والأقمشة المبرقعة المرحة، وكذلك الأجساد الأنثوية البضّة، تتحول جميعها إلى كائنات فردوسية سامية الروح".
في اليوم السابق على وفاته العام 1954، عن 84 عاماً، رسم ماتيس تخطيطاً صغيراً لليديا بالقلم الجاف. وكان ذلك آخر رسم له. وفي السيرة التي كتبتها هيلاري سبيرلنغ لماتيس لاحظت أن الفنان فرد ذراعه في الرسم ليقيم مستواها، ثم قال "ستنفع". ولما فارق الحياة، أكدت ليديا التي كانت قد بلغت الـ44 من عمرها، أن وجهها هو آخر ما رسمه الفنان صبيحة موته.
(*) الحلقة الثالثة من ملف "فاتنات روسيات" الذي ينشر تباعاً في "المدن"، وكانت الحلقة الأولى عن "آنا آخماتوفا" والثانية عن "غالا"...
(**) كتاب"هل انتم محصنون ضد الحريم" لفاطمة المرنيسي عن منشورات الفنك والمركز الثقافي العربي.