لقد غيّرونا إلى ما نكره

هدى بركات
الإثنين   2016/07/25
 
... ثمّ بدأت أفهم شيئا فشيئا أنّه انفجار. في شارع الجامعة العربيّة حيث عبرت منذ دقيقة إلى شارع جانبيّ لأترك سيّارتي في التصليح قبل أن أتجه إلى ثانوية البرّ والإحسان القريبة حيث كنت أدرّس. يومها كانت شاحنة مفخّخة حصدت أرواح المئات. ومن يومها سكنني خوف هاجسي، عقيم وعبثي لم يفارقني يقول: كان يمكن جدا أن أكون "هناك".

لم أقبل باقتراح ساحة برج إيفل لمشاهدة الألعاب الناريّة مع حفيدتي. قلت سرّا لأمّها إني أخاف التجمّعات البشرية خاصة في هذه الأيّام، ثمّ بصوت مرتفع: إنّنا لن نجد مكانا لركن السيّارة. ولمّا همّت ياسمين بالبكاء وجدت أمّها الحل في فرساي. في محيط القصر الكبير تُقام حفلة عظيمة بالصوت والضوء وتُختتم بألعاب ناريّة لا تقلّ أهميّة عن تلك الباريسيّة.

فرحت لأنّنا لم نجد مكانا في الساحة الكبيرة المزدحمة. ثم استطعنا الإطلال من خلف أسوار القصر. وفيما كان الناس حولنا يصفّقون ويصيحون دهشة كنت أنا أجول بنظري خفية بحثا عن... الإرهابي. عن أيّة إشارات في الهيئة أو الملبس، منزلقة إلى القياسات والإستدلالات التي للعنصريين الصريحين!

حين شاهدتُ صور مجزرة مدينة نيس ركب في رأسي سيناريو "كان يمكن أن نكون هناك". اخترعت هولي غصبا عن أيّ منطق. كان ممكن أن نكون في نيس. لماذا لا يذهب الواحد إلى نيس المدينة الجنوبيّة الجميلة لعطلة قصيرة أو ...

كلّما سمعت أخبار الإرهابيين، وقبل إعلان انتمائهم لداعش أو غيرها، أقول مستبقة التحقيق إنهم الإسلاميّون. في هجوم فرانكفورت الأخير، قبل أن يتبيّن أن لا علاقة للشاب الموتور بداعش، وقبله في بافاريا كذلك حيث هجم شاب بالساطور على ركّاب قطار...

***
هكذا شيئا فشيئا تغيّرنا، نحن الكارهون لداعش والمحبّون للحرية والحريّات. صرنا نتمنّى لهم الحرق، الموت، في صرخة غريزيّة تستبق أوليّات أيّ تحقيق. وكنّا في السابق نميل إلى إعمال العقل وأساليب الفهم. كنّا، حبّا بالديمقراطيّة، ندعو إلى البحث عن الأسباب ومعالجتها قبل الدعوة إلى الحروب والإجتثاث. إنّنا تدريجيّا نخسر عقلانيتنا وننزلق إلى منطقهم...

أقول إن أيّ خروج من البيت يعرّضني للخطر. أصير أشبه الفرنسيين في خوفهم من امرأة محجّبة أو رجل بدشداشة أو لحية إسلاميّة. حين يغادرون عربة المترو متوجّسين من هذه المظاهر صرت أغادرها مثلهم. أبرّر لنفسي ما يبرّرون لأنفسهم من فرز الناس على أساس المظاهر. لا وقت للـ"تحليل". إنّه ردّ الفعل العصبي الفوري الذي تجده ميسّرا في ملامح العنصرية العاديّة، التي صارت مقبولة وشرعيّة في مقابل احتمال موت مجّاني. في كره الأجانب الحسّي كأنّني أنا من أهل البلد...

لقد غيّرونا عميقا. صرت أتضايق أيضا من مظهر فتاة بلباس "مكشوف" بالشورت والبلوزة الخفيفة في سوق الخضار خلف بيتي. أي في قلب باريس. أقول مستنكرة تبخترها اللاهي هذا بأن عليها "احترام الوضع"، فالسوق مليء بالباعة المسلمين من مغاربة وعرب وأفارقة، ما هذه اللامبالاة، ما هذا الإستفزاز؟! أمّا إذا كانت الفتاة إيّاها ذات ملامح شرقيّة فسيتعالى صوتي الداخلي المستنكر لـ"قلّة الحياء"!

إنّنا ننزلق إلى ما كنّا نكرهه كأنّنا نقع في بئر. نرى وقوعنا ونحاول جاهدين التمسّك بما كنّا نحبّه في سيرتنا. باتوا ينتصرون علينا ويحتلّون أرضنا شبرا شبرا من حيث لا ندري. حتّى أنّنا صرنا نستسهل السير إلى الأفخاخ التي صرفنا عمراً في جهد تجنّبها.

***
كنت أردّد لياسمين بأنّها طبعا لبنانيّة. لبنانيّة وفرنسيّة وهذا حظّ عظيم!
الآن لم أعد بهذا الحماس إذ أرى أن العالم بأسره غدا واحدا متشابها، ولا مكان أهرب بها إليه.
كلّما ذهبت بعيدا عنّ عينيّ أخاف. أقول إن هذا العالم معتوه تماما. أحاول الاّ أسرّب قلقي إلى فرحها. نصفّق بقوّة للألعاب الناريّة، ونغنّي عائدين ليلا في السيّارة قبل أن تلقي رأسها على كتفي وتنام...