"حيّ السلّم": حياة محتشدة بالمتاهات والموتوسيكلات والشهداء..

يوسف بزي
الأحد   2016/05/29
ضاحيةُ الضاحية وهامشها المحتقن، الملاذ والمتاهة ومستودع البشر المحشورين عند الحافة الأخيرة (أرشيف المدن)
كل معاييرنا المعتادة عن "العجقة" والصخب والفوضى، يجب تناسيها تماماً ونحن نسير في "حيّ السلّم". هنا سنتعرف حقاً على الاحتشاد والكثافة والازدحام والضجيج العشوائي الغامر. هنا تصح عبارة "انفجار" الحياة، بمعناها البيولوجي والعمراني، الحياة بما تحمله من دفق وحركة وأصوات وروائح والتهام وتناسل وافرازات ودبيب ولهاث واستهلاك..

هو قاع الضاحية، ضاحيةُ الضاحية وهامشها الضيق والمحتقن، الملاذ والمتاهة والخباء، ومستودع البشر المحشورين عند الحافة الأخيرة. حارات وزواريب وأسواق وعمارات متكدسة في مربع مضغوط بين المريجة والشويفات والمطار، لا على شبهة "مخيمات" اللاجئين الفلسطينيين، ولا على مثال "عشوائيات" القاهرة، ولا حتى كضواحي بيروت الشرقية (قبل الحرب، النبعة وبرج حمود)، بل هو نموذج لنفسه، بالكثافة و"الازدهار" والاحتشاد الهائل، حيث يعيش أكثر من 250 ألف شخص في مساحة لا تتجاوز2.7 كيلومتر مربع.

ليس أرض فقراء ومهمشين فقط، ومبعث شكوى ونواح، حسب أدبيات صحافية يسارية وعروبية. وليس أرض إهمال وفوضى وتمرد، وفق سوسيولوجيات مطمئنة لسردياتها، ولا هو "خزان" بشري لحركات نضالوية شعبوية تستثمره في خطاب تعبئة وتحريض، على ما اختبرناه منذ الستينات. وبالتأكيد، "حي السلّم" ليس "أغنية" عن أرض الشرف والإباء والمقاومة حسب دعائيات "حزب الله" و"حركة أمل". هو بعض من كل هذا، تضاف إليه حقيقته العارية: اجتماع بشري فائق الحيوية والنهم والرغبات، مشحون بطاقة السعي والظفر بمتع العيش اليومي وشروطه، لاهث وراء الجاذبية الدنيوية، ومندفع بكل غرائزه وحيله وخياله من أجل البقاء والاستمرار.

اجتماع بشري فتيّ وموفور النشاط، ويسعى لتدبير عيش لائق على نحو محموم وغير منضبط، متحفز بذاكرة الهجرات القسرية والصدامات والعنف المتواتر، ومستنفر بتعبئة حزبية مسلحة تواظب على لغة الاحتراب والعداوة.

هو أولاً متاهة، أو سلسلة من المتاهات المتصلة بعضها ببعض. منقسم نظرياً إلى أحياء عدة، تتخذ أسماء أولى العائلات الكبيرة التي استوطنته أو إسم القرية الأصلية للمهاجرين: حيّ آل عبد الساتر، حيّ الهبارية.. وتضم خليطاً من أفواج الهجرات الريفية السنّية (بلاد العرقوب: الهبارية وشبعا..)، والشيعية (البقاع الشمالي: بعلبك والهرمل، والجنوب). ومن الصعب أن نجد ذاك التمييز المذهبي، في السكن أو في انتشار العلامات الدالة والرموز السياسية والحزبية. فعلى الأرجح يكتم السنّة إشاراتهم وعلاماتهم الفارقة، طالما أنهم شديدو الاندماج الاجتماعي في "حيّ السلّم"، وتأخذهم "المصلحة" إلى ترك الفضاء العام لفيض الرموز السياسية التي تبثها غلبة "الثنائي الشيعي"، أي "حزب الله" و"حركة أمل".

قد يشتكي سكان بيروت وكل ضواحيها من فوضى الدراجات النارية الصغير وكثرتها بكل مشاكساتها وفلتانها وحوادثها، وقد يشتكون أيضاً من الفانات الكثيرة المنطلقة في الشوارع، والمشهورة برعونة سائقيها وشغبهم وميلهم لإثارة المشاكل والاستقواء والمعاكسة والعنف اللفظي أو حتى الجسدي.. كل هذا يبدو ضئيلاً، وربما محتملاً، ما أن تدخل في معمعة حيّ السلّم. مئات الفانات تتدافع وراء بعضها البعض في زواريبه، وتجد في ما بينها وأمامها وخلفها مئات "الموتوسيكلات" المنبجسة فجأة من كل مكان، و"الطائرة" بكل الاتجاهات. دفق لا يتوقف من الفانات والموتوسيكلات على نحو جنوني، بأصوات محركاتها ومكبرات صوتها الصادحة بالأغاني بأعلى درجة ممكنة، ومغلفة بأدخنة العوادم التي تجد صعوبة في النفاذ من بين المعادن والكثافة الباطونية ومتاهة الشوارع والدكاكين لتصل إلى السماء.

يحدث هذا الازدحام الدائم، في أزقة بالغة الضيق، تعبرها كل الفانات والسيارات والدراجات بالاتجاهين، ومعهم السائرون والعابرون، حيث لا أرصفة على الاطلاق. فعلى السائر مشياً أن يتزاحم حرفياً مع كل هذه الآليات في مساحة تقاس بالسنتيمترات، كأن يقفز بلحظة إلى مدخل دكان مفسحاً المجال لسيارة قبل أن يعود إلى الشارع. وفي عز هذا الاحتشاد يتقافز الأولاد عند كل زاوية، يركضون ويلعبون، فيما يهيمن على المشهد كله هذا الفائض السكاني الهائل من فئة الشباب، الذين يعملون أو يتسكعون أو يتجمعون في شلل صغيرة عند مداخل البنايات والدكاكين والنواصي. ولا تغيب حركة النساء اللواتي يتسوقن. حركة دؤوبة وكثيفة، تدل على مشاغلهن المنزلية والأسرية التي لا تنتهي.

ازدحام إلى حد الاختناق في شوارع مدمرة، هي عبارة عن حفر متتالية وأخاديد وأرض متشققة ومتصدعة وبقايا أتربة وإسفلت متفتت، ومياه آسنة ووحول وغبار متطاير أبداً..

وحيّ السلم، هو أيضاً متاهة من الأسواق، هو سلسلة متصلة من آلاف الدكاكين والمحال التجارية المحشوّة بكل شيء، بكميات هائلة من كل شيء. دكاكين متداعية وبائسة، وأخرى باذخة وفاقعة بألوانها وواجهاتها المنمقة، تزاحمها البسطات والعربات. هنا البضائع خليط من الرثاثة و"الكيتش" والرخص وحيرة التأنق على مثالات تلفزيونية وسينمائية، وإقبال على موضات شعبية "حديثة"، تشي بملاحقة مرتبكة لاقتراحات المدينة والصور المعولمة. سوق هائلة لهذه الديموغرافيا الفوّارة، المقبلة على الاستهلاك بكل ما أوتيت من إمكانات، فقيرة أو مقتدرة، للخضار والثياب والأحذية والالكترونيات والأدوات المنزلية، إضافة إلى محال تصفيف الشعر والتبرج ودكاكين السندويشات والعصائر والحلويات والمخابز، وعدد لا ينتهي من البقالات وتلك التي تقدم خدمات التخابر الدولية والمحلية (هل هي شرعية؟). ثمة نشاط اقتصادي هنا تحسده أسواق الضاحية الجنوبية الأخرى، بل وأسواق بيروت نفسها، الراكدة والمتثائبة.

أقوى ما في حيّ السلّم هو الأصوات، الضجيج المروع، الذي يجعلك تشعر عندما تغادره وتصل إلى طريق المطار، أن صمتاً يخيم على الضاحية الجنوبية والعاصمة، وأن "صخب المدينة" الذي لطالما تذمرت منه، كان مجرد مجاز، أو وَهم. في حي السلم، سيتبدل عندك مفهوم الضجيج. هنا ستغرق في تسونامي الأصوات الجارفة والقوية والعنيفة، ستتلاطم في دماغك آلاف الأصداء والأبواق والموسيقى المندلعة من كل مكان، وزمجرات المحركات وطنين الموتوسيكلات وصرخات المتحدثين بأعلى حنجراتهم.. وأصوات أخرى لا تفقه مصدرها، لعلها أيضاً ما يأتي من عشرات ألوف الشقق الملاصقة لبعضها البعض، والمطلة كلها على الشوارع مباشرة.

عند مدخل الحيّ، في تلك الساحة المكتظة، نصبت "حركة أمل" لوحة باطونية مع نقش لصورة الإمام موسى الصدر، وهذه العبارة المنحوتة: "حيّ الكرامة". وهذه التسمية أعلنتها الحركة المذكورة العام 1983، حين تمنعت تلك المنطقة عن الرضوخ لهيمنة الدولة اللبنانية والجيش اللبناني والقوات المتعددة الجنسيات (الأطلسية)، إيذاناً باستئناف الحروب التالية والمتناسلة حتى العام 1989. وتصديقاً من الأهل والسكان لفكرة أنهم "حماة الكرامة"، وتنكبهم لواجب "صون الكرامة"، أكانت "من أجل عروبة لبنان" أو "من أجل المحرومين والمستضعفين"، غالباً ما كان شبان هذا الحيّ هم وقود الصدامات والاشتباكات والمعارك المسلحة. وإذا أضفنا إلى هذا، ثقافة العصبيات المذهبية أو العائلية وثقافة السلاح زينة الرجال وثقافة الثأر وعداوة الدولة والمظلومية (التاريخية؟) وثقافة تحصيل الحق باليد، فغالباً ما كان الحيّ مرتعاً للإشكالات المسلحة وإطلاق النار العشوائي والمميت والصدامات الدامية وحوادث العنف والخروج على القانون، ومظاهر الاستقواء والجهوزية الفورية للشغب أو لحمل السلاح أو للاشتباك بالعصي والأيدي والسباب البذيء والسلوك العنفي، الذي يدفع ثمنه الشبان أنفسهم قبل غيرهم. واليوم، وتحت شعار جديد "لبيك يا زينب"، تنتشر فيه على نحو قد يفوق باقي أحياء الضاحية الجنوبية، صور "شهداء حزب الله" الذين سقطوا في الحرب السورية. من الواضح مرة أخرى أن الحيّ الأفقر هو الذي يقدم شباناً أكثر، كقرابين لمعارك الحزب على الجبهة السورية.

في كل مكان ترتفع صور ملونة لـ"الشهداء" من أبناء الحيّ، ليس لأنهم أكثر إيماناً وتقوى وحماسة من أبناء بقية الضاحية الجنوبية، بل لأنهم الأكثر استعداداً ربما للذهاب إلى ما وراء الحدود، لحمل السلاح من غير تساؤلات كثيرة أو عناء تفكير. إنهم بهذا "الاستنفار" والاستعداد والجهوزية للقتال، يستأنفون ما اعتادوا عليه هنا في قلب الحيّ، وفي ذهابهم بمناسبات عدة لـ"غزو" بيروت أو الجبل.

الإقبال على الموت، المترافق مع الضخ المستمر والعنيد لأدبيات الموت والشهادة والدم التي يواظب عليها "حزب الله" بإصرار هوسي وهذياني، لا يتواءم كثيراً مع دبيب حيّ السلّم المنفجر بالحياة وبالإقبال عليها بتعطش وصخب وفوضى وتلهف حار للاستهلاك وإشباع الحواس. من يتجول هنا لا يرى شباناً مغلفين بالخجل الديني ولا بمظاهر التدين أو الورع ولا حتى لديهم تلك اللغة الجسدية المهذبة التي تخص "المؤمنين". هنا الشبان بالفانيلة القطنية، بملابس صارخة تُبرز تفاصيلهم العضلية. ويتحركون، سيراً وقعوداً وسواقة رعناء، بما هو تظهير سلوكي للفحولة والشبق العلني. هم على الأغلب شديدو الاعتناء بتسريحاتهم، بمظهرهم الجسدي وملبسهم، ولا يتوقفون عن استعراض ذكوريتهم والتباهي بها، فحتى قضاء جلّ أوقاتهم عمداً خارج منازلهم، هو من أجل هذا الاستعراض الشبق والرغبوي والغرائزي. ثم تلك المشاكسات والتفلت وانتشار تدخين النارجيلة في الشوارع والشغف بالأغاني الصاخبة والراقصة، والحوادث الأمنية الصغيرة اليومية لكثرة من زعران الأحياء، لا تدل إلا على انحسار "قدوة" الشاب المؤمن، المجاهد الورع.

بالتأكيد، كانت الصورة المعممة عن الضاحية منذ منتصف الثمانينات صحيحة، بوصفها معقلاً للخمينية والأصولية الدينية المتشددة، والاحتشام والتزمت. وكانت هناك سلطة "حزب الله"، التي تراقب وتعاقب وفق مضبطة الأخلاقيات الدينية الصارمة، فتلاحق لباس النساء والفتيات والشبان (وتسريحة الشعر)، السلوك الفردي في الفضاء العام، المشاركة في صلاة الجمعة، والمسيرات والمناسبات الدينية، منع الموسيقى والحفلات وبيع الكحول وشربها..إلخ.

هذه الصورة انتهت تقريباً. بقيت موجودة على الأرجح، فقط في "الجهاز" الحزبي وفي "الرابطة" الأسرية لأعضاء الحزب. خارج الحزب، الضاحية لها صورة أخرى، تقترب أو تبتعد قليلاً عن مشهد حيّ السلّم. الخمينية هي عقيدة المنتمين للحزب، لا السكان. وحدها الشيعية السياسية هي الرابط، بوصفها عصبية متماسكة بمواجهة الطوائف الأخرى، تمنح الحزب ولاء الطائفة.

أبعد من ذلك، فالمتجول في الضاحية، لا يرى فيها ضاحية الثمانينات والتسعينات وما قبل العام 2006، هي اليوم، أقرب إلى مواصفات المدينة المخططة والمرتبة لسكن الطبقة الوسطى والأثرياء والمقتدرين، وتقع على حواشيها أو هوامشها ضواحي الفقر، كبعض أحياء برج البراجنة أو حي السلم والعمروسية.

ثمة تحول كبير وهائل في عمران الضاحية، مردّه التحول الطبقي والاقتصادي الذي عرفه "أهل حزب الله"، وارتقاؤهم الاجتماعي، بما كان لديهم من مصادر مالية وتمويلية ضخمة، باتت اليوم تترجم نفسها في شركات ورساميل واستثمارات وأعمال تجارية ووكالات ومقاولات، إضافة إلى المؤسسات الصحية والتربوية والرعائية والخدماتية.

في "حزب الله"، كجهاز عسكري وأمني وسياسي وخدماتي، طبقة كبيرة من البيروقراطيين والتكنوقراطيين، الذين يشكلون شريحة واسعة من سكان الضاحية، وهؤلاء مع مخضرميه وأنصاره الخلّص وأقربائهم وأصدقائهم ومقربيهم وأهل قادة ونواب ووزراء وأصحاب اختصاصات ومهن حرة ورجال أعمال يشكلون طبقة من الأثرياء، الذين يشهدون الرخاء وترف العيش. وهؤلاء وحدهم لديهم القدرة على كلفة التدين وكلفة مظاهر الورع.

ومن هذا كله، يبقى لحيّ السلّم إسم "الكرامة"، والكثير من صور الشهداء والموتوسيكلات والفانات.. وغريزة البقاء.