شوقي أبي شقرا: عودة الغريب

حسن داوود
الخميس   2016/04/28
ما ميّز الإحتفال بشوقي أبي شقرا هو غلبة الشعر على لغة التكريم وتقنياته وتوزيع أدواره. أحسسنا ونحن في الصالة المزدحمة بأصدقائه ومحبّي شعره، أننا نعود إلى قراءته، وأننا نتعرّف إلى أنفسنا حين كنا نقرأه في الأوقات المتفرّقة لصدور كتبه. آنذاك، كانت الجملة تُحدث فينا ما يشبه الصعقة المدغدغة، خفيفة لكن محيّرة، إذ كيف يُفهم على الفور عنوان كتاب مثل "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة". كان ينبغي أن نجري في رؤوسنا عمليات فهم عديدة ومتقلّبة لكي نضع هذه الجملة في سياق، أيّ سياق. وقد احتجنا إلى وقت ليس بالقليل، وانتظرنا أن نكبر في العمر سنوات أخرى، كي نضع هذه الجملة، كما جملاً وسطوراً أخرى كثيرة له، في ما يشبه المسرى الصحيح.

وقد وُضعنا، الأربعاء، في احتفال "الجامعة اللبنانية الأميركية"، في التجربة عينها، لكن مأخوذين بالفتنة هذه المرّة، وبالدهشة أيضاً ما دام أن هذه في طبيعة شعر أبي شقرا. ونحن نستمع إلى جاهدة وهبة ورفعت طربية يؤدّيان شعره، بدا لنا الشاعر مثل صبّي مولع بالإدهاش، مثل أن يشعل مفرقعات بين أرجل الواقفين، أو يسرق شيئاً من شجرة الساحة ليلحق به الآخرون، أو يسحر الجمع القليل بأن يحوّل شيئاً في يده إلى شيء آخر. ذلك الشعور بأننا نسمع، أو سنسمع، المفاجئ والغريب ظلّ ملازمنا في وقت السماع كلّه. من ذلك مثلاً أن يلفّ الأولاد، وهم أولاد الضيعة طبعاً، جسم رجل بالحجارة، هكذا بما لم نعهده في استعمال الحجارة وبما لم نكن نتوقّعه من اتخاذ الحجارة ذلك الشكل، وبما لم يخطر لنا أبداً أن تجاور الحجارة هذا الفعل: "لفَّ".

هذا الجمع بين ما لم نكن نعتقده متآلفا هو ما يدهش في شعر أبي شقرا، وهو ما يثير ذلك النوع الخاص من الفكاهة التي تظل ماثلة حتى إن كان الكلام ذاهباً في مجارٍ أخرى مختلفة. هذا وأننا ما زلنا إلى الآن نشعر بأن هذه الفكاهة المرافقة لشعره هي مما لا يحسن الجهر به أمام الآخرين، إذ ربما تكون أتتنا من خطأ قراءتنا.

نبهتنا الأمسية (27 نيسان) إلى أن وقتاً طويلاً مضى على قراءتنا شعر شوقي أبي شقرا. كأننا تركنا مسافة من الزمن خالية بيننا وبينه، وها إننا نُعاد إلى الإتصال به، ليبدو جديدا مرّة أخرى، وأكثر قربا إلينا طالما أننا لم نعد نكتفي بالوقوف عند الشعلة الأولى من جملته، مثلما في تلك اللعبة التي كنا صغارا نلوّح بها مشرقطة بأيدينا.

وكانت حاضرة في الأمسية، وخصوصاً في الكلمات القليلة التي ألقيت وفي الفيلم الذي عرض عن أبي شقرا، تجربته في العمل الصحافي الثقافي، بدءاً من مطلع الستينات حيث أسّس لأول صفحة ثقافية يومية في الصحافة العربية. لم يكن الكلام عن ذلك عابراً أو قليلاً في الأمسية، ربما لأن كثيرين من أولئك الذين امتلأت بهم الصالة كانوا من قارئي تلك الصفحات أو من كتّابها. والأصحّ أنهم كانوا في الشيئين معا متذكّرين شوقي وراء طاولته، سنة بعد سنة، مُعملاً قلمه الأحمر بالأوراق أمامه، ومضيّفاً زواره من علبة البونبون مثلما هي الضيافة في البيوت. لا أستطيع إلا أن أجد نفسي مشبّها حملي لعدد جريدة "النهار" ذاك، فالشاً إياه مرّة بعد مرة وأنا سائر على قدميّ في شارع الحمرا، لأقرأ إسمي على مقال نشره لي شوقي، لا استطيع أن أشبّه ذلك إلا بحملي الجريدة، سائراً على قدميّ أيضاً، وأنا غير مصدّق أنني قرأت إسمي بين أسماء الناجحين في شهادة البكالوريا.

كنت أوّلنا يا شوقي، في كتابة تلك الصفحة وكذلك في تغيّر الزمن عليها.


* أقامت "الجامعة اللبنانية الأميركية" عصر للأربعاء حفلاً تكريمياً للشاعر شوقي أبي شقرا شاركت فيه جورجيت جبارة وجاهدة وهبة وحلوة أبي شقرا، ومعهنّ أمين ألبرت الريحاني ورفعت طربية، وألقى كلمة الجامعة رئيسها جوزيف جبرا.