كتاب محمد.. مراوغة الموت بالأدب

أحمد شوقي علي
الأحد   2016/04/10
هذا البحث عن الذات لا يعدم الفرصة في ضياعها،
"أيمكن للكتابة أن تعيد قتيلًا"؟ لا يمكن، وهو ما يعرفه جمال جبران عندما يطرح السؤال على نفسه بينما يكتب عن أخيه الراحل محمد. يظن عبر السؤال أن كتابته محاولة لاستعادة شقيقه، ويتخوف في الوقت نفسه من أن تكون سبيلاً لنسيانه، وما بين المحاولة والخشية من نتائجها يغفل جبران أنه يستعيد ذاته لا أخوه.

يطمح الكاتب اليمني جمال جبران من خلال "كتاب محمد"، الصادر عن قطاع الثقافة في مؤسسة "أخبار اليوم" المصرية، إلى أن يصنع مرثية عن أخيه الأكبر، الذي توفي نتيجة مرض، غير أن القارئ الذي يطالع الكتاب باعتباره "بورتريهات" نثرية، يكتشف أنه أمام مجموعة قصصية مكتملة لا ينقصها إلا التصنيف، وأن الكتاب بقدر الحزن الذي يُطعم نصوصه يحمل من المراوغات- المقصودة وغير المقصودة- ما تحمله صناعة النص الأدبي، بدءًا بعنوانه الذي يحمل دلالة دينية واضحة، وانتهاء بنصوصه التي تكشف عن أن بطلها الأول ليس محمد جبران وإنما الكاتب نفسه.

اعتمد الكاتب على اللغة المحكية في سرد قصصه في حساسية ناسبت عمر الراوي الذي يتنقل في الزمن بين الطفولة والشباب والكهولة، واستثمرها جبران عبر نصوصه لإبراز قدرة سردية مميزة. وهو ما يضع القارئ الذي سيتناول الكتاب في حيرة عندما يعلم أن الكتاب هو الأول لمؤلفه الذي يعمل صحافياً، والذي –أي القارئ- حين يعبر لجمال عن اندهاشه ذلك، يجيب "كان التدريس بالجامعة شاغلني.. وتفرغت أخيراً. كل سنة هتلاقي كتاب". ربما تبدو تلك الإجابة- رغم المزاح البادي فيها- هي المراوغة الأهم التي استعان بها جبران على الكتابة؛ الدخول إليها من المنطق الاعتيادي: المنطق العاطفي، ولكنه منطق لم يسيطر على السارد ليستدرجه إلى كتابة عاطفية ذاتية "كان قلق ضخم يطاردني من خشيتي فقدان النص إنسانيته التي ستضع حاجزاً بينه وبين وصوله لقارئ مفترض ليس من هذه البلاد، خشيتي هنا من قول أحدهم في بيروت (مثلا): "وما شأني أنا بحكاية شاب يمني من أصول إفريقية كتب عليه السير على شريط أيام صعبة"!

لذا فإن قالب القصة الذي عمد إليه جبران في بناء كتابه، كان الأنسب، لا لعكس حياة ذلك الشاب الحبشي فحسب، إنما للتصدي لسيرة كاملة من معاناة أسرة حبشية فقيرة، قصد خلالها الكاتب إلى إضمار كثير من الظروف المحيطة بمعيشتها في مقابل إبراز انعكاسات تلك الظروف على تكوين شخصيته وشخصية أخيه، هذان الطفلان اللذان قضيا طفولتهما بصحبة أمهما التي تعمل ممرضة في مشرحة، فيما كانت لعبتهما الأثيرة هي قيادة عربات الموتى المستخدمة.

ولا تبدو كتابة جمال جبران حين يذكر نفسه في قصص أخيه، كتابة عن الذات بقدر ما هي بحث عنها "يبدو الغريب في أمر الاستذكار هذا وأنا الذي صرت غارقًا في حالة مستحيلة من النسيان الموجع في تفاصيل الحياة اليومية، استغرابي، حال الكتابة باسترجاع قصص وتفاصيل كنت أظنها ذهبت في تلاشيها أو أنها قد حدثت فعلا. الشعور بطراوتها وأنا أعيد كتابتها وكأنها حدثت بالأمس القريب. أضحك هنا وأبتسم هناك بسببها، في حين تنزل دموع كثيرة من قلبي".

هذا البحث عن الذات هو ما يضفي على كتابه صبغة الإنسانية التي قصدها، فكلما توغل الكاتب في ذكرياته لصوغ قصص لا يكون محمد فيها هو محور الكلام الرئيسي، كلما بدت شخصية محمد أكثر تفرداً وندرة، على العكس تماماً من الصورة "العادية" التي يظهر فيها الأخ المتوفي خلال النصوص التي تتخذه محوراً وحيداً للكلام وتسعى إلى إبراز مثاليته.

لكن هذا البحث عن الذات لا يعدم الفرصة في ضياعها، فهل يحفظ الكاتب ذكرياته عندما يدونها داخل النص الأدبي أم أنه يتخلص منها إلى غير رجعة؟ يكتب جمال جبران: "في الوقت نفسه تبدو لحظة الألم العميقة حين الانتهاء من حكاية ما، وأنا أقوم بكتابة خاتمتها ليأتيني شعور مؤلم وموجع، وكأني أحكيها للمرة الأخيرة، وأن هذه الجزئية من حياة محمد ستنتهي إلى الأبد ولن يكون من الممكن إعادة روايتها مرة أخرى"، غير أن الكاتب لا يمهله خوفه من النسيان برهة قبل أن يجد نفسه في نهاية الكتاب عاجزاً عن الاستدلال على قبر أخيه فيما يمنعه الكبرياء من السؤال عن مكانه، فيتيه بين شواهد القبور.