الفُصامُ السفيريُّ والعُصابُ العروبيّ

محمد أبي سمرا
الأحد   2016/03/27
دشّنت "السفير" عروبتها في لبنان واستهلَّتها بتمويل سياسي ليبي قذافي.
بعد هزيمة العروبة الناصرية والبعثية في حرب حزيران 1967، وموت إمامها وخطيبها الناصري في العام 1970، وتركه فراغاً مدوِّياً كالهزيمة، تناحرَ في المشرق العربي على تقاسم ذلك الفراغ كلٌّ من البعثين: السوري بقيادة حافظ الأسد، والعراقي بقيادة صدام حسين، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني العروبية الوليدة مسلحةً في الأردن ولبنان، رداً على تلك الهزيمة المدوِّية.

ولأن حركة المقاومة الفلسطينية ولدت أصلاً متشقِّقة، متنازِعة ومُستتبَعة، في ديار اللجوء الفلسطيني وشتاته، فقد استمات البعثان المتناحران على اختراقها والاستثمار فيها واستتباعها، ومنع قائدها وزعيمها ياسر عرفات من الاستقلال بقرارها ومقدراتها. لكن التلميذ الناصري الانقلابي في ليبيا معمر القذافي لم يكن بدوره بلا طموح، فخاض غمار المنازَعة على إرث العروبة الناصري، ودخل شريكاً مضارباً للبعثين لحيازة موطئ قدم له في القضية الفلسطينية ومنظماتها المسلحة في الأردن ولبنان اللذين كانا وحدهما ساحتين مفتوحتين للسلاح الفلسطيني وللاستثمار فيه.

في غمار هذه المعمعة وجدت العروبة بأطيافها الكثيرة، المتناسلة والمتناحرة، منبراً إعلاميا لها في لبنان: جريدة "السفير" البيروتية الصادرة في العام 1974، لتكون بدورها واحةً للاستثمارات المتنازِعة والتي خالطها أيضاً زخمُ حركةٍ يسارية اجتماعية وطلابية لبنانية مطلبية نشطت في الصف الثاني من الستينات، ثم التحَمتْ أو التحقت في مطلع السبعينات بحركة المقاومة الفلسطينية المسلحة.

هكذا حملت جريدةُ العروبات المتناحرة لواءَ مسيرة تعريب لبنان ونطقت باسمها منذ صدورها غداةَ تحول لبنان ساحة للحروب الأهلية الإقليمية الملبننة، والتي تناسلت أخيراً في سائر الديار العروبية المشرقية.

***   ***

كسواها من الصحف اللبنانية تفيَّأَتِ "السفير" - وكذلك حركةُ المقاومة الفلسطينية، والحركة اليسارية اللبنانية، وسائر قوى الاستثمارات العربية في قضية فلسطين، وصولاً الى الاستثمار الإيراني في "حزب الله"- مناخاتِ الحرية السياسية والمالية والأمنية والثقافية في لبنان الموصوم منذ ولادته بعار عروبته المثلومة أو المنقوصة. تداركت الجريدة الجديدة هذه الوصمة بشعار صدّرته صفحتها الأولى: "صوت الذين لا صوت لهم"، و"صوت العروبة في لبنان، وصوت لبنان في العالم العربي".

واذا كانت الحرية اللبنانية قد جسّدتها ورعتها "دولةٌ ديمقراطية طائفية"، والأصَحُّ "دولةُ ديمقراطيةِ الطوائف"، فإن العروبة لم تكفَّ قطُ عن اعتبار هذه الدولة "مسخاً" و"صنيعة المؤامرات على العروبة"، منذ معاهدة سايكس- بيكو "الاستعمارية المشؤومة" التي قوَّضت الامبراطورية العثمانية وقسَّمتها عقب الحرب العالمية الأولى.

كأنما لبنان وحده لا شريك له وُلِدَ لقيطاً، فيما البلدان والدول العربية الأخرى ولدت من دم العروبة الأصيل الناصع، وبرَّأَها من الطائفية جبروتُها السلطانيُّ الساحق لمجتمعاتها وجماعاتها وطوائفها التي أدت الانتفاضات العربية الأخيرة إلى ظهورها عارية محطمة.

وهذا بعدما وصف الطغيان السلطاني العروبي لبنان بأنه "دكان على البحر" و"بلد للسياحة والاصطياف والخدمات والترفيه". كأن هذه كلها أعمالٌ مشينة، حتى في نظر العروبة اللبنانية، فيما جعلتها "الأيديولوجيا" أو "الطوبى" اللبنانية الوطنية الرسمية، وذات المصدر الاجتماعي والثقافي المسيحي من صفات لبنان الحسنى.

***  ***

دشّنت "السفير" عروبتها في لبنان واستهلَّتها بتمويل سياسي ليبي قذافي. وسرعان ما ساحت في مسيرتها وتنقَّلت في متاهات عروباتٍ مالية وسياسية كثيرة، متدافعةً ومتناحرة. فمن العروبة الناصرية والقذافية والفلسطينية، انتقلت إلى عروبة سورية أسدية. هذا قبل أن تحطَّ رحالها أخيراً في حال من الفصام المالي والسياسي. وهو فصام لم تعد قادرة على إخفائه وحجبه إلا ببراقع رثة لرثاء نفسها والصحافة والعروبة، قبل إعلانها عزمها على تجرُّع السّم الزعاف: احتجابها عن الصدور.

***   ***

ذلك ما أعلنه مؤسس الجريدة وصاحبها ومورِّثها لأبنائه، نسجاً على منوال عروبي عميق الجذور لا فكاك منه. والمبدأ هذا لم يبرَّأْ منه صانعُ أمجاد جريدة "النهار" في الستينات اللبنانية. ذلك حين وقف في العام 2000 وزفَّ لمحرري الجريدة خبر توريثها لنجله. لكنه خفّف من وطأة كلامه- على نفسه أولاً وأخيراً- بالمزاح والسخرية من نفسه، لتواردِ توريث "النهار" وتزامنه مع وراثة بشار الأسد والدِهِ على عرش سوريا الديكتاتوري.

أما الفُصام السفيري فتجسّد في انتهاج الجريدة سياسةً أسدية- خمينيّة شيعية و"حزب اللهيّة" حربية ممانعة. وعبثاً حاولت وتحاول تقنيع (من قناع) هذه السياسة "في خدمة سيدين"، بعروبة انشائية خاوية تهاوت وأفلت، وهي في طور الاندثار في خضم الثورات العربية الأخيرة المغدورة.

***  ***

هذا التوصيف لحال "السفير" في مسيرتها العامة العريضة، منذ ولادتها حتى اليوم، يستوجب أيضاً نظرة أخرى من الداخل لمسيرتها الصحافية والمهنية. فهي منذ النصف الثاني من التسعينات اللبنانية شكّلت مختبراً ومنبراً جديداً لصحافيين وكتّاب من ثلاثة أجيال شابّة متعاقبة. وفي مكاتبها وعلى صفحاتها اكتشفوا أنفسهم ونشأوا وتعارفوا وتثاقفوا، قبل أن يغادروها تباعاً ويتفرّقوا أيدي سبأ، صحافيين محترفين وكتّاباً وشعراء وروائيين.

معظم هؤلاء لم يَبْرَأْ من حنينه المقيم إلى زمن شبابه السفيري ومسيرته السفيرية، قبل أن يتركهما خلفه ويغادر نادماً ساخطاً. لكن اقتفاء ذلك الحنين وتلك السِّير يحتاج إلى مقاربة أخرى تستعيد سيرة حقبة من حقائق وأوهام الثقافة والصحافة في لبنان.