إسلامي مصري في متاهة الجهاد

محمد أبي سمرا
الثلاثاء   2016/02/09
الأرجح أن الشاب الإسلامي أحمد ابو خليل كتب سيرته الإسلامية المصرية، بعد مغادرته القاهرة إلى سوريا وتركيا مطالع العام 2012. فهو أنهى سيرته هذه التي وسمها "يوما ما... كنت إسلامياً" (لا يزال عليها) - نشرتها "دار دوّن" القاهرية في طبعات أربع أولاها في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 والأخيرة في فبراير/شباط 2013 - بفصل يصف فيه اجتيازه عند "مغيب الشمس" الحدود التركية قادماً من سوريا في سيارة مع مجموعة سورية مسلحة، تتحرك "بحذر خلف سيارة (أخرى) تسبقنا بأمتار قليلة، وتؤمّن لنا الطريق"، بعدما "تجاوزنا آخر قنّاص قد يواجهنا في طريقنا". في استراحته القصيرة الأخيرة على الأراضي السورية المتاخمة للحدود التركية، يسرّح بصره على "تلك البيوت المتراصة صموداً في وجه القصف اليومي، وعلى وجوه الشباب المبكّر إلى عمله أو رِباضه" الحربي أو القتالي في لغته الإسلامية. هذا فيما يطلع "من مسجل سيارة الشباب" نشيد إسلامي "جهادي" عن "أبطال" و"فرسان" ضد "الذل" و"الإذلال" ولن يحنوا "رأساً للطغيان" الذي "أسوداً" في "الميدان" سيدكّون عروشه.


النشيد أو "أنشودة البواسل" هذه، هي إياها "التي كانت تهدر من مسجّل سيارة أحد المجاهدين أيضاً، عندما كان يمرقُ في أحد شوارع غزة تحت جنح الليل متجهاً بي (أي بالشاب المصري أبو خليل نفسه حين زيارته غزة في "سياحة جهادية" قبل سنوات) نحو حدود جباليا، حيث الرِّباط" أيضاً، والذي يصفه بـ"الإرث الممتد، والشعلة التي ما أن تخبو جذوتها في موطن حتى يتَّقد شررها من تحت الرماد في موطن آخر". ويتذكر في استراحته السورية أيضاً "أيام (ه) السابقة في حلب وأدلب"، حيث القصف و"الجرحى والمقاتلين... النساء والأطفال...الجبال المحررة والمدن المحاصرة... لمشافي المستهدفة والطرق المقطوعة". ثم "تلك السيدة الثلاثينية التي تشرف مع زوجها على مستشفى سراقب (...) ولم أعرف سرّ حزن عينيها الدفين إلا بعدما أخبرتنا أن أهلها جميعاً فُقِدوا" في مجازر حماة منذ ثلاثين عاماً. وها هو "الشاب السوري يتحدث عن القدس، ويسألني عن توقعاتي لعدد السنوات التي نحتاجها حتى تتحقق الوحدة بين سوريا ومصر". إذَّاك "راودتني أحلامي القديمة: المعسكرات والأناشيد والاعتقال والخلافة والأمة" وآلة التسجيل التي قلبتُ فيها "شريط البواسل على وجهه الآخر"، فانداحت أنشودة أخرى: "مغيب الشمس يا أمي/ بجانب تلّنا الأخضر/ أنا واعدت أصحابي/ هناك الموعد الأكبر".

هنا يتوقف الإسلامي المصري عن الكلام المباح، وينهي سيرته الإسلامية التي بدأت منذ ولادته العام 1987 في مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية شرق الدلتا. بل إن إسلاميته استقبلته مذ صرخ صرخة الولادة. فهو سليل عائلتين تمتد جذورهما الإسلامية الإخوانية إلى جدّيه ووالده الإخواني قبل أن يصير ضابطاً في القوات المسلحة المصرية، ويبقى مقيماً على تديّنه وأخلاقه وثقافته الإسلامية التي نشَّأَ عليها ولده وسدّد خطاه على دروبها طفلاً، قبل انتقال الأسرة الى القاهرة وإقامتها في مدينة نصر وبعدهما، الى أن تخرَّج العام 2008 من كلية العلوم التابعة لجامعة القاهرة.

يستعيد أبو خليل في فصول كتابه القصيرة المتسلسلة في 212 صفحة، عوالم نشأته وتربيته وثقافته ونشاطه التربوي والدعوي في بيئات إسلامية عائلية وسكنية ومدرسية وجامعية في مصر التسعينات من القرن العشرين والعشرية الأولى من الألفية الثالثة، وصولاً إلى اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 المصرية التي شارك في فصولها الأولى، مشرَّباً بإرثه العائلي ونشأته وثقافته الإسلامية. لكن إسلاميته هذه ظلت على الدوام قلقة ومضطربة في اضطرامها وتطورها، من دون ثباتها على حالٍ واحدة في تنقيلِه انتمائه ونشاطه بين الأطر التربوية والدعوية والتثقيفية والخطابية المدرسية والجامعية، الإخوانية تارةً والسلفية طوراً، وفي جماعة "التبليغ والدعوة"، وصولاً إلى انضوائه في "معسكر جهادي" إخواني للرياضات القتالية في العريش، لكن من دون سلاح، بعد انهائه مرحلة التعليم الثانوي. ولم يكن ينقصُ التدريب في ذلك المعسكر الصحراوي "سوى ضرب النار، ليكون تدريباً جهادياً شاملاً".  غير أن ذلك النقص لم يحرم "المجاهدين" من الشعور بأنهم يعيشون "ضرباً من الأحلام" في "عالم مثالي ومدينة فاضلة" مختبرين في أنفسهم وجوارحهم مشاعر وأحاسيس "الصحابة العائدين من غزوة أُحد، عندما نادى (عليهم) منادي الجهاد قبل أن ينتصروا: يا خيل الله اركبي وكانت غزوة حمراء الأسد".

في العام 2008 أنهى أبو خليل تعليمه الجامعي برحلة "سياحية جهادية" في غزة عوّض فيها النقص في معسكر العريش: "في شوارع غزة كنا نمشي شاعرين بالأمان التام"، من دون أن تراودنا "فكرة أمن الدولة، هاجسَ كل الإسلاميين في مصر" التي كان قد زار عاصمتها "الشيخ نزار ريّان القيادي البارز في حركة حماس"، عقب "فوز" الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية المصرية. هناك، في غزة زار "السائح الجهادي" المصري المسحور، الشيخَ ريانٍ - المقاتل الميداني (الذي) لا يشق له غبار، وقائد معركة جباليا إبان تحرير القطاع العام 2005 - في منزله المؤلف من "أربع طبقات وطبقة تحت الأرض فيها مكتبته العامرة، وهي من أكبر مكتبات غزة وأثراها، ومفتوحة للباحثين، ولها مولّد خاص للكهرباء". وكان الشيخ "يعمل في مشروعه الضخم: شرح صحيح مسلم". ولا يترك عمله هذا إلا للأكل مفترشاً الأرض، بعد انقضاء "الثلث الأول من الليل". يفرغ من الطعام فـ"يصلي طويلاً"، كأتما إجهاشه بالبكاء، "حتى إذا انقضى ثلثٌ آخر من الليل، لبس لأمَتَه (لناسه العسكري) وخوذته وبدا متعملقاً، (قابضاً) على الكلاشينكوف" في خروجه إلى "الرِّباط حتى الفجر".

في طبقات منزله الأربع كانت "تقيم زوجاته الأربع، وله من البنين ستة ومن البنات مثلهن، ومن الأحفاد عدد كبير. وقبل أعوام استشهد ابنه ابراهيم أحبُّ أبنائه إلى قلبه". ولا يذكر "السائح الجهادي" المصري متى "تناهى إلى سمعه خبر استشهاد" مضيفه الشيخ الغزاوي الذي استشهد في حرب اسرائيل المدمرة على غزة العام 2009. لكنه يكتب أنه لم يبكِ يوماً كما بكى لدى سماعه خبر الشيخ، مضيفاً: "بدلاً من الأدوار الأربعة كانت هناك حفرة بعمق أربعة أدوار"، واستشهدت زوجاته الأربعة مع 12 من أبنائه وأحفاده.

واكتملت رحلة السائح الجهادي المصري في أرض "الرِّباط" الغزاوي بإطفائه ظمئه المديد إلى إطلاق النار، بعدما تنبّه رجل غزاوي إلى ذلك الظمأ في عينيه المحدقتين في الكلاشينكوف، فأعطاه الرجل البندقية الرشاشة التي "حملتها بين ذراعيَّ والموسيقى تشتغل في رأسي: بين ذراعنا الرشاش قد أرغى وأزبد/ لنمحو بؤس تاريخ تلفّع بالأسى الأسود". وعندما "ضغطتُ على الزناد تخيلتُ كل الأعداء أمامي: عصابات اسرائيل واليهود وما استباحوا من أرضنا، جيوش أميركا وكتائب الروس وما سفكت من دمائنا، الصرب وما هتكوا من أعراضنا، الإنكليز والفرنسيين وما شوهوا من مجتمعاتنا، الأصنام التي  تُعبدُ من دون الله من عادات وتقاليد وأعراف ما أنزل الله بها من سلطان". وعندما "أطلقتُ الرصاصة الثالثة أصابت الهدف، فطارت في الهواء علبةٌ" معدنية فارغة على الأرجح.

هذا غيض قليل من فيض هذه الإسلامية المصرية الجديرة بالقراءة والتحليل المعمق لأنها تروي رواية شديدة الإضطراب والقلق الإسلاميين المضطرمين في صدور فئات واسعة من جيل مصري شاب في العقدين المنصرمين، تأرجح في إسلاميته بين الإخوانية والسلفية وسواهما من ثقافات الإسلام النضالي والحركي والجهادي والتربوي والدعوي والخطابي. وهو جيل شاب عاش إسلاميته في العقدين هذين في حال من التيه الدائم على إيقاع الأناشيد والأهازيج والخطب والفتاوى والنشاط التربوي والتثقيفي والدعوي في مسارات حياته اليومية الواقعية المشتبكة اشتباكاً لا فكاك منه بالفضاءين التلفزيوني والالكتروني المعولمين. وهو أيضاً اشتباك يمزج الوقائع بالأحلام والمخيلة ويجتاح الجوارح والوجدان الفردي والجمعي الجريح، ويستدخل العالم والزمن الراهنين بإرث ماض سحيق القدم لا يزال حياً راعفاً، ولا يبدو اليوم أن هناك ما هو قادرٌ مثله على منح العالم معنىً ونصاباً ووجهة وسط الخراب والتيه والحروب والمقاتل في الدول والمجتمعات العربية الإسلامية.