"قطار السكر والملح": الحرب تأكل الجميع

محمد صبحي
الأحد   2016/12/04
إنجاز فيلم درامي تاريخي ليس أمراً هيناً في بلد تتجدد فيه الصراعات المسلحة
لم تكن رحلة عادية أبدًا تلك التي شهدها الموزمبيقيون خلال ثمانينيات القرن العشرين بعد أن جُلبوا إلى حافة اليأس من جراء الحرب الأهلية التي اجتاحت بلدهم بعد عامين فقط من نهاية حرب الإستقلال الموزمبيقية. في الفترة من 1977 إلى 1992 اشتعلت البلاد بنيران الحرب بين جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو) والمقاومة الوطنية الموزمبيقية (رينامو)، الأمر الذي جعل كثير من الموزمبيقيين يشرعون في المخاطرة بحياتهم في رحلة على متن قطار بضائع تمتد لحوالي 700 كيلو متر، تبدأ من مدينة نامبولا الواقعة في شمال موزمبيق على ساحل المحيط الهندي وتنتهي في مالاوي الواقعة على الحدود الغربية لموزمبيق، يرافقهم حراسة عسكرية يحمل أفرادها مدافع رشاشة مضادة للطائرات مستعدة لصد أي هجوم محتمل من قوات "رينامو" لاعتراض سفرهم.

كان المدنيون يخاطرون بحياتهم طواعية لأجل أن يحملوا الملح، والذي كان وفيراً، ويقايضونه في ما بينهم بكميات من السكر، والذي صار شحيحاً ومربحاً، كي يستطيعوا إعالة أسرهم في زمن العجز والفوضى. ولكن في كثير من الحالات، خاصة بالنسبة لراكبي القطار من النساء، يكون الخطر على متن القطار مخيفاً تماماً كمثيله على الأرض.

حكاية المخاطرة والرعب والنجاة يستعيدها المخرج الموزمبيقي ليسينيو أزيفيدو في فيلمه الأخير "قطار السكر والملح"(*)، الذي يستند إلى رواية للمخرج تحمل العنوان ذاته. الفيلم الذي يمكن اعتباره "شريط ويسترن إفريقي" يركز انتباهه على قيمة استرجاع العناصر المجهرية والتفاصيل التاريخية الصغيرة في قارة لا تزال تحاول إعادة تعريف مكانها في تاريخ العالم الكبير. السينما الإفريقية عادة ما أثقل كاهلها ذلك الإلحاح الدائم على مقاربة الروايات التاريخية لماضيها على نطاق واسع بشكل لا يسمح بالتمعّن والتفحّص في ذلك التاريخ، ليخرج المنتج النهائي على شكل عموميات وشعارات لا تقول شيئاً جديداً. ولكن في النهاية، التاريخ هو محصّلة أجزائه الممتدة، و"قطار السكر والملح" فيلم مختلف يتشارك عدداً من التفاصيل المذهلة ليكوّن جزءاً من "الصورة الكبيرة"، في محاولته لأنسنة الماضي والعودة إليه وإعطائه القدرة على أن يكون تواصلياً مع الزمن اللاحق، وهو ما يسهم في محاولة فهم الروابط والأسباب التي جعلت موزمبيق "دولة فاشلة" حتى وقت قريب.


القطار مجتمع صغير
تدور أحداث الفيلم في عام 1989، ومنذ المشاهد الافتتاحية منه تأخذ ملامح الرعب المسيطر على البلد الإفريقي في الظهور بوضوح، ولكن وسط الحرب والدمار هناك مكان للحب دائماً. في قطار البضائع تنشأ قصة حب رقيقة بين روزا (ميلاني دي فالز رفاييل)، وهي ممرضة شابة جميلة تأتي كرمز لقيم الحنان والقوة والحساسية التي تلعبها النساء في أوقات الحرب، وضابط يدعى "طيّار" (ماتامبا خواكيم) وهو مساعد قائد الجنود على متن  القطار. الأجواء المشحونة في القطار والمناخ العصيب في البلاد يؤثران بالطبع على نفسية كل الركاب، وفي هذه الأثناء يظهر سالوماو، زميل طيّار والمساعد الثاني لقائد الجنود.
 سالوماو هو شرير الفيلم، الضلع الثالث في مثلث الصراع والحب، وهو المعادل الموضوعي لمثالية طيّار. تعمل حكاية الفيلم على إبراز التضاد بين شخصية الضابطين والاستفادة من محركات ودوافع كل منهما لتطوير الصراع الدرامي والدفع شيئاً فشيئاً نحو نهاية تتماشى مع الوضع العام الذي يحكمه منطق القوة الغاشمة وعجز الأخيار في المقابل عن درء قوى الشرّ  المدمرة. سالوماو ضابط شجاع، وهذا ما ساعده على الترقّي، ومن ناحية أخرى، هو شخص متحجر المشاعر، شهواني، لا يعتد بمشاعر الآخرين طالما سينال غايته: نراه يقوم بإرغام زوجات بعض المواطنين على متن القطار على معاشرته جنسياً تحت تهديد السلاح. في المقابل، لا يملك المواطنون المغلوبون على أمرهم القدرة على فعل أي شيء يمنع عنهم أذى الضابط، في إشارة ذكية من المخرج إلى النكوص الناتج عن انعدام أملهم في أي شيء جيد، بعد إدراكهم أن جنودهم الذين ينتظرون منهم الدعم وقت الحرب لا يقلون وحشية واستغلالاً عن قوات العدو. في الواقع، يبدو واضحاً من خلال استعراض الشخصيات الأخرى في الفيلم رغبة المخرج في أن يكون القطار مسرحاً صغيراً يجتمع فيه "نماذج" تمثل أفراد وطبقات المجتمع الموزمبيقي، وهذا تكنيك تقليدي للغاية ولكنه يبدو متناسباً مع قصة الفيلم.


يسير السرد السينمائي في الفيلم على إيقاع القطار الذي ينطلق بعزم على خطوط السكك الحديدية المتهالكة، عابراً بلداً وزّعت الحرب ندوباً ظاهرة في أجزاء واسعة من أراضيه العذراء. وفي هذه الرحلة الطويلة، المليئة بالعقبات والمخاطر، لدينا الوقت للتعرّف إلى عدد من النماذج البشرية على متن القطار، والدخول إلى بواطنهم والتعلّق بحكاياتهم. نستمع إلى ضباط وعساكر الجيش يتذكرون أحلامهم حين كانوا على مقاعد الدراسة، ونستمع إلى أمنيات المدنيين في حياة هادئة لا يعرف الخوف مكاناً فيها. ولدينا الوقت كذلك للحديث عن الحب وخطط المستقبل. وبالاتكاء على الصور الخام الخشنة ومع اختفاء تام للنكتة والمرح؛ يعرض المخرج الجانب السفلي من الحرب، ذلك الذي يُبرز جدارة وانحطاط النفس البشرية: "الحرب تجعل القبيح أكثر قبحاً، والضعيف أكثر هشاشة، والجبان أكثر جبناً، بيننما القادة يصبحون أقوى"، تقول إحدى شخصيات الفيلم.

نجم الفيلم الساطع بالتأكيد هي ميلاني دي فالز رفاييل، الممثلة ذات الواحد وعشرين عاماً التي قدّمت أداء ناضجاً يضعها على بداية الطريق لمسيرة مهنية استثنائية. في ظهورها الثاني على الشاشة الكبيرة (كان أول ظهور لها إلى جانب داني جلوفر في فيلم "جمهورية الأطفال" حين كان عمرها 14 عاماً)، تحصل الممثلة الشابة على فرصتها لإظهار سحرها وصواب اختيارها حين قررت تجاهل رغبة والدتها بمتابعة دراستها الأكاديمية (لديها شهادة في العلاقات الدولية والدبلوماسية) لصالح حكاية "قصصاً مدهشة" تعتقد أنها تشكّل مورداً غير مستغل في وطنها الأم، لتصير سفيرة لبلدها من نوع آخر. في مقابلة صحافية معها، تقول رفاييل إنها كشابة موزمبيقية تعتبر النبش في الماضي من خلال التاريخ الشخصي للأفراد وسيلة لفهم الأحداث التي شكّلت العالم الذي ولدتْ فيه ويعيد إليها الأهمية التي تستحقها، والتي غالبا ما يتم تجاهلها.
في الفيلم يصبح القطار بطلاً صامتاً، بمساعدة كاميرا مدير التصوير الفرنسي فريدريك سيرف الذي ينجح في تحويل المناظر الطبيعية إلى مشاهد غنية بصرية وباعثة على التأمل، ويُعلى من أثر تلك التخوم الجميلة والرهيبة في آن التي يجازف القطار بالعبور من خلالها. وأخيراً، يساهم تعقيد اللغة المجازية للفيلم في رسم صورة مُركَّبة تشهدنا على التعارض بين البراغماتية العميقة للصراع المسلح بين أبناء الوطن الواحد والمعتقدات الروحية التي يؤمن بها المتقاتلون.


بداية جديدة للسينما الموزمبيقية
لدى موزمبيق تاريخ سينمائي بارز، وشاركت في إنتاج مجموعة من أكثر أفلام القارة الإفريقية تقدمية في السبعينيات والثمانينيات، ولكن سقوط الستار الحديدي أثر بشكل كبير على مصادر إيرادات صناعة السينما الموزمبيقية والإنتاج السينمائي بشكل عام، معطوفاً على الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلاد عقب الحرب الأهلية وتضخم المديونيات الخارجية. في السنوات التالية صار من النادر أن نجد فيلماً روائياً طويلاً يخرج من موزمبيق، ولهذا نال "قطار السكر والملح" حفاوة كبيرة فور عرضه في المهرجانات السينمائية باعتباره يحلّق فوق تيار الرداءة والاستسهال الذي يصيب صناعة الأفلام عادة في بيئة متعطشة للموارد مثل موزمبيق، وكذلك للمستوى الجيد الذي ظهر عليه حتى اعتبره بعض النقاد بداية جديدة للسينما الموزمبيقية المعاصرة يمكن البناء عليها.

إنجاز فيلم درامي تاريخي ليس أمراً هيناً في بلد تتجدد فيه الصراعات المسلحة، وتوفير العوامل اللازمة لخروجه بشكل مناسب يتوقف على قدرة وإرادة صنّاعه في استكمال مشروعهم للنهاية ومواجهة كافة المعوقات والتحديات التي تقف في طريقهم. واجه المخرج صعوبات في استخراج تصاريح التصوير، لأن الحرب الأهلية اشتعلت من جديد بعد توقف دام لمدة 25 عامًا، كما قام بمجهود بحثي كبير كي يتمكن من إجراء العديد من الحوارات مع السكان الأصليين الذين اختبروا مرارات الحرب، وأخيراً تمثّل التحدي الأبرز تقنياً في استخدامه لخطوط السكك الحديدية الأصلية والاستعانة بقطار قديم لإعطاء المصداقية لفيلمه.


(*) "قطار السكر والملح" عُرض قبل أيام في القاهرة