محمد خان... ترجمان القاهرة السينمائي

وجدي الكومي
الجمعة   2016/12/30
من المواضع اللافتة في سينما محمد خان، تكرار اسم "فارس"
لم يكن القرب الكبير الذي جمع بين الناقد محمود عبد الشكور، والمخرج الراحل محمد خان، هو السبب الذي جعل كتاب الأول "سينما محمد خان... البحث عن فارس"(*) يخرج بهذا الإمتاع، بل لأن مؤلف الكتاب يكتب التحليل السينمائي بلغة مبسطة، مستخدما الكلمات العادية، مبتعدا عن الألفاظ الصعبة، أو التراكيب الغامضة، ما جعل من الكتاب مادة سهلة، متاحة للقارئ العادي.

يبدأ عبد الشكور كتابه بمقدمة طويلة، عن أسلوب خان السينمائي، ومفاتيحه، وأدواته، مفتتحا كتابه بالإشارة إلى أن واقعيته ليست خشنة مثل واقعية صلاح أبو سيف، لكنها واقعية أنيقة متعاطفة لا تتورط في أحكام أخلاقية حادة.

يتأمل محمود عبد الشكور بقوة وحسم، مواطن القوة، التي جعلت مسيرة خان تتسم منذ بدايتها بالامتاع وأمور مشتركة أخرى، بدءاً بفيلمه القصير "البطيخة" (1972) -تلاه 24 فيلما طويلا. ويفسر المؤلف لماذا كانت هذه الأفلام ممتعة، فيشير إلى أن اهتمام خان بالدرجة الأولى انصب في أفلامه على الإنسان، أي الشخصية العادية لأبطاله. وينفي عبد الشكور عن خان أن أفلامه كانت كلها عن المكان، أو الأمكنة، على الرغم من أنه يسميه "ترجمان القاهرة السينمائي". يقول عبد الشكور: "أفلام خان عن الإنسان في المكان، ولا تحكي حواديت، لكنها تنقل أجواء، وحالات، وترسم ملامح شخصيات، وظروف".


ويلفت عبد الشكور إلى أن أفلام خان تتميز بمسحة تسجيلية واضحة، لأنها تهتم بالتفاصيل الصغيرة، مثل كل مخرجي الواقعية، يضرب عبد الشكور المثل بفيلم خان القصير "البطخية" الذي يعتبره وثيقة نادرة عن ناس وشوارع السبعينات في القاهرة. ويعرج عبد الشكور في مقدمته للحديث عن الثراء الهائل الذي تتمتع به أفلام خان في تقنيتي "شريط الصوت" و"شريط الصورة" وكيفية استخدامه الموسيقى. يقول عبد الشكور: "أول خطوة في سبيل صنع عالمك الخاص، هو أن تعرف نوعية الأفلام التي تحبها، ثم أن تعرف نوعية الأفلام والأبطال الذين تريد أن تحكي عنهم". يبلور عبد الشكور رؤيته لسينما خان ومفاتيح عالمه من حيث المضمون، بقوله إن أفلامه ليست في جوهرها إلا بورتريهات لشخصيات، وهذا البورتريه هو هدف الفيلم بأكمله، وبالتالي فإن المواقف الدرامية المتتالية، سواء انتظمت في شكل حبكة تقليدية أو تراجعت فكرة الحبكة، ليست سوى ضربات فرشاة في رسم هذا البورتريه. ونقطة الجاذبية وصعوبتها في الوقت نفسه في أن صورة الشخصية تكتمل بالتدريج، لا مرة واحدة، كما أن الشخصيات المحيطة لا تقل عنها ثراء من الناحية الإنسانية.

يتطرق عبد الشكور أيضا إلى مدلولات العناوين التي يطلقها خان على أفلامه ويشير إلي أنها تحمل في معظمها أسماء أبطاله، ومنها "فارس المدينة" و"مشوار عمر" و"ضربة شمس" و"الحريف" و"أيام السادات". حتى الأفلام التي خلت من أسماء، تضمنت ما يوحي الإشارة إلى اسم البطل، ومنها "خرج ولم يعد" إشارة للموظف عطية (يحيى الفخراني) أو "فتاة المصنع" إشارة إلى هيام، أو "مستر كاراتيه" إشارة إلى صلاح (أحمد زكي) و"الغرقانة" إشارة إلي بطلته (نبيلة عبيد)، التي عانت في القرية وفي المدينة.


يحلل مؤلف الكتاب باقتدار وببساطة، أسباب استغراق خان في تفاصيل المدينة، وينفي أن يكون قد استغرق في الأمكنة، أو جعلها مجرد خلفية للأحداث. يؤكد عبد الشكور أن المكان في أفلام خان يرتبط ارتباطا وثيقا بالحبكة والشخصيات، ويحكي كيف اصطحب خان فريق تمثيل فيلمه "فتاة المصنع" إلى مكان المصنع الذي سيتم فيه التصوير، قبل بدء العمل، لتطبيع أبطاله على المكان. يكشف عبد الشكور أيضا في هذا الموضع أن روبي كانت بطلة فيلم "فتاة المصنع" قبل أن تعتذر، لتذهب البطولة إلى ياسمين رئيس. ويتطرق عبد الشكور إلى قدرة خان على تطويع المكان، ليعكس نفسية أبطاله، كما فعل في "زوجة رجل مهم" حيث تبدو شقة الزوجية التي تجمع بين منى "ميرفت أمين" وهشام "أحمد زكي"، بممراتها الضيقة، ترجمة للظروف الصعبة التي تعيشها عكس شقتها الأولى مع أسرتها، وانعكاس الشمس على شرفتها.

من المواضع اللافتة في سينما محمد خان، تكرار اسم "فارس" في أفلامه. يقول المؤلف أن المخرج الراحل يتعمد تكرار هذا الاسم، كبطل في حقيقته، نقيض لفكرة البطولة "Anti hero". يؤكد عبد الشكور أن ذلك ليس من قبيل الصدفة أبدا، لأن فكرة الفروسية هي أبرز الأمور التي تشرح معنى رومانتيكية أبطال خان، ويضيف: "على الرغم أن الأبطال يقدمون كل التفاصيل الواقعية الحية، إلا أن هناك جانب نبيل يظل أبيض اللون داخلهم. الفروسية في أفلام خان ليست مفهوما مثاليا مطلقا منفصلا عن الظروف، لكنه مرتبط بها، أبطال خان يحملون لقب فارس لأنهم يقاومون، ولأنهم قادرون على العيش وسط حياة قاسية، ولأن فقرهم أو بساطتهم لم تقتل قلوبهم، ولم تجعلهم حيوانات".


ويخصص عبد الشكور مقالا لكل فيلم من أفلام خان، واختار أن يرتبها وفقا لتواريخ إنتاجها، بخروج النسخة الأولى من المعمل، لا وفقا لسنة العرض، ويستهلها بمقالة عن فيلم "البطيخة" مذيلا العنوان بعبار "كيلو اللحمة بقى بـ90 قرش" في إشارة إلى أن الفيلم أقرب ما يكون إلى لوحة وثائقية ترسم ملامح المجتمع المصري في السبعينات، ومعاناة المصريين، وبطل الفيلم، الذي يحسب مصاريف الشهر "12 جنيه إيجار الشقة، 2 جنيه فاتورة النور، 10 جنيه للبقال، 9 جنيه مصاريف المدرسة، كيلو اللحمة بقى بـ90 قرش".

وفي المقال الذي خصصه عبد الشكور عن فيلم "يوم حار جدا" بطولة شريهان، ومحمود حميدة، يلفت إلى أنه لا يعتبره من أفلام خان الأقرب إلى التكامل، لكنه أيضا جزء من عالمه، ويترجم ولعه بالشخصيات بجانب أن الفيلم يمتلك حكاية براقة، عن رجل يقرر تكليف قاتل محترف بالتخلص من زوجته.

(*) صدر الكتاب عن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثامن والثلاثون هذا العام، الذي ترأسته ماجدة واصف...