الأعمى الذي يرانا عُراة

عبد الدائم السلامي
الثلاثاء   2016/11/22
«أنا أعْمَى يا غَبِي، دَه أنا أشُوفْ أحْسَنْ مِنَّكْ، في النُّورْ... وفي الظُلْمَه كَمَانْ»
-1-

- «إلاَّ إنْتَ يا شيخ حُسْنِى مَحْكِيتِلْنَاشْ... أِنْتَ عَمِيتْ إزايْ؟»

- «أنا أعْمَى يا غَبِي، دَه أنا أشُوفْ أحْسَنْ مِنَّكْ، في النُّورْ... وفي الظُلْمَه كَمَانْ».

هذا الحوار هو فاتحة فيلم «الكيت كات» الذي أخرجه داوود عبدالسيد في تسعينات القرن الماضي عن رواية «مالك الحزين» للروائي إبراهيم أصلان، وأدّى فيه الفنانُ الراحلُ محمود عبدالعزيز دورَ بطله الأعمى «الشيخ حسني». والأجمل في هذا الحوار أنّ السؤالَ فيه يَجِدُّ في البحث عن سببٍ وجيهٍ للعَمَى الفيزيولوجيّ، بينما تنصبّ الإجابةُ على نفي ذاك العمى نفيًا ممزوجًا بتأكيده وإثباتِ مزاياه. وهو أمرٌ يدعو مقالتي إلى استدعاءِ مفهوم «العمى» وجعله يحيا خارج جسد الأعمى، بل وجعله ينهض في الذهن فاصلاً بين القدرة والعجز، وبين الكلام والصمت، وبين الحقيقة والزيف. ولعل جلاءَ هذا الفاصلِ هو ما جعل فيلم «الكيت كات» أبلغَ من الرواية وأكثر منها قراءةً لمِحْنَةِ الناس وتأويلاً. ذلك أن مفهوم العمى يترحّل فيه من دائرة «الصفة» التي حشره فيها النصُّ الروائيُّ صوب دائرة «العقيدة» التي تستوجب على الأعمى أن يؤمن بعَظَمةِ عماه. إنّ عمى «الشيخ حسنى» -على حدّ قول الكاتب خالد عاشور الذي زوّدني بمعلومات عن هذا الفيلم- إبصارٌ، وإبصار المُبْصِرين من الناس عَمًى.

-2-

نهارُ الأعمى يجري عكس نٌهر الناسِ؛ يجري إلى مُنْتَهى البَصيرة والكُنْهِ: إلى الحقيقةِ. سأسعى الآن إلى تحريرِ هذا المعنى، وبداية ذلك ملاحظةٌ وجيهةٌ صورتُها أنّ تَمَثُّلَ العَمَى، في الفن والأدب، مُحيلٌ على كون الأعمى سيِّدَ رأسِه وساكنَه الأوْحدَ (مَنْ يسكن رؤوسَ المُبْصِرين إذن؟)، فهو يرفعه عاليا أثناء الصمت، ويرفعه عاليا في حَدَثِ الكلام، لكأنَّما الرأسُ دليلُ الأعمى إلى السماء بحثًا فيها عن المُمْتنِع من الحقيقة، يرفعه كأنْ لا شيءَ حقيقيًّا على الأرض يعنيه، أو كما لو كان زاهدًا في حقيقة مَن حواليه. هذا ما أوْقَفَتْني عليه مُشاهدتي لوحاتٍ فنيةً متّصلٌ موضوعُها بالعمى على غرار لوحات «العميان» لجان مارتين (سنة 1937) و«العربيّ الأعمى» لبول لُورْوَا (1890) و«هوميروس يعزف الكمان» لماتيا بْريتي (1665) و«حكمة العميان» لبيتر بْروغل (القرن السابع عشر) و«الأعمى» لبيكاسو (1902). إذْ بدا فيها رأسُ الأعمى أكثر شُموخًا من رؤوس المُبصِرين وجوّابًا لآفاق بعيدة لا يُطِلُّ عليها هؤلاء.


وإنّ من آفاق الأعمى أنْ يرى الكونَ كميّةً من الممكنات تحتاج إلى صَوْغٍ جديدٍ: كأنْ يَجُرَّ كُرةَ الأرضِ من حيّز تيبُّسِ الحقيقة إلى حيّز طراوة العَتَمَة، يسحبها إلى ظُلمة الداخل، إليه، حيث يهيجُ العالَمُ ويتكاثرُ ويتنوّعُ ويصير كلّه مِلْكًا للعُمْيانِ. ذلك أنّ الأعمى كائن مُتحرِّرٌ من منطِق الحقيقة البصريّة ومَنْطَقِها، ولا حقيقة يُعوِّلُ على وجاهتها تحت الشمس، فالحقائق بالنسبة إليه توجد حيث لا توجد الشمس، توجد هناك في الظلمة، وما يظهر من حقائقَ للمبصِرين إنما هو ظِلُّها الأفلاطونيّ الماكرُ. الحياة في العمى هي بداية المخلوق (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ[1])، والحياة في العَمَى هي منتهاه، إنها لحظةُ خلقٍ تحكمها شهوةُ خالقٍ.

العمى نصُّ حقيقتِنا، وإذن فنحن محتاجون إلى تعلّم قراءة الظُّلمة لنَبْلُغَ بلاغةَ حقائقنا، ومحتاجون إلى «إغماض» العينيْن كيْ لا نرى ضَلالَ ما نرى. إن إغماضَ العينيْن عدلٌ واجبٌ في كُنْهِ وقائع الحقيقة بعيدًا عن لألأةِ يافطات إشهارِها الاجتماعي والأخلاقي والسياسي، وهل العدالةُ إلا أن تكون معصوبةَ العينيْن؟ وهل الحياة إلاّ مَسِيرتُنا من ظلمة الرَّحِمِ إلى ظلمة العَدَمِ؟ وهل الحبُّ -ذاك الذي يُطيحُ بعروش الآدميين- إلا مُطْلَقُ العَمَى، ولِمَ حُبّنا أعمى؟ ألم يقل سبينوزا إن الناس ينقادون برغباتهم العمياء أكثر مما ينقادون بالعقل[2]؟ وأضيف سؤالي: أليس بياضُ عصا الأعمى علامةً تُحيلُ على عَمَى مَنْ حوله من الإنسِ؟ ومتى كان الأعمى معنيًّا بلون عصاه؟

الرأيُ أنّ الأعمى أهنأُ المخلوقات جميعا، لأنه لا يتعذّب بما يرى في الأرض عذابَنا نحن بمنظوراتنا، هو أهنأ المخلوقات لأنه متعالٍ على منطِقِ الأرض واشتراطات يقظتِها البصرية، إنه يعيش كلَّ عُمُره حالمًا: الناسُ يحلمون –بمشقّة بالغة- حين يغمضون عيونهم ليلاً (وهناك مَن لا يحلم حتى في النوم)، بينما هو يحلم بسلاسة في النوم ويحلم بسلاسة في اليقظة، إنه يرى العالَم في الحلمِ، بل ويصنع العالَم في حُلمه. وربّما بسبب ذلك تسمّيه اللغةُ -من باب الاستحياء- بصيرًا، تستحي اللغةُ من العَمَى لتُخْفي عَمَاها.

الأعمى لا يستحي ولا يحتاج إلى مرآة كي يُعدِّلَ بها سوءةَ ما يرى، كلّ العالَم عريانٌ أمامَه (ثِقُوا بأنه يرانا عراةً، وهذا ما يُضحكه دائما)، وهو لا ينفكّ ينظر إلى الجوهر فينا، إلى جوهر اليقين، ينظر إلى ما نُبدِّدُ أعمارَنا في إخفائه عن العيونِ: هشاشتنا وعيوبنا وخوفنا من تجريب الظُلمة: ظُلمة السجن أو ظُلمة القبر. هل رأيتُم خيالا شفيفًا يخترق سواتر الأجساد والأساطير والديانات؟ إنه «بارتيماوس» أعمى أريحا الذي شفاه يسوعُ (لتَظْهَرَ أعمالُ الله فيه)[3]، وهو «عَبْد اللَّه بْن أُمّ مَكْتُوم» الذي كشف محنةَ الإنسانيِّ في النبيِّ خارجَ الدّعم الإلهي (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءَهُ الأَعْمَى...[4])، العمى خيالٌ وعقيدة تستوجب الإيمان بها، إنه حكايةُ تَقَاطُعِ الإلهيٍّ فينا مع البشريّ، بل إنه مُعْجزةُ هذا التقاطُعِ وكشّافُ معانيه.

ولعلّ من علامات تلك المعجزة أنّ الأعمى -عكس حال المُبْصرين- يتكلّم في الصورة، أعني يتكلّم بها في الوقت الذي نتكلّم فيه نحن عن صُورِنا؛ حين نلتقط صورة لنا نكون واثقين بأننا سنراها، ولذلك ترانا نتجمّل فيها ونبتسم قليلا ونركن إلى الصمت مطمئنّين إلى أحوالنا فيها، أما الأعمى فلا يملك من أمر رؤية نفسه في الصورة شيئًا سوى وعيِه بأن صورتَه ستكون فرصتَه السانحةَ ليُكلّم بها مَن يراه فيها من الإنسِ: يكلّم بها رائيه. هذا هو شأن صورة «الشيخ حُسني» معنا؛ فنحن نتكلّم لحظة أو لحظات ثم نسكت، أما هي فتتكلّم دون توقّف: إنها واقفة في الزمن لتحكي فيه بلا انقطاع تاريخَها الخاصَّ في اشتباكِه بتاريخ عجزنا عن الفهم الخاصِّ، كلُّ وقتِ الصورةِ منذورٌ للكلام، فهي لا تصمتُ حتى لو نهرناها أو أزحناها من أمامنا، وكلّ حواسِّها حاسّةٌ واحدةٌ: تحدّي الصَّمتِ. لا تُوجد صورةٌ إلا لتتكلّم، الصُّوَرُ الصامتة هي نحن في وَقَاِرنا الاجتماعي وفي خوفنا من تحمّل مسؤولية الكلام. الصورة لا تخشى الكلامَ، بل إن الكلامَ مهرجانُ لذّتها، ألم يقل الشيخ حُسني: «أنا بَكَلِّمْ النَّاسْ حَوَالِينْ الجوزة، بَفَضْفَضْ، بَضْحَك، وأَغَنِّي في قعدة حِلْوَة لِغَاية ما أَمُوتْ»؟ ولكن الشيخ حسني لن يموت، فالأعمى يظلّ حيًّا في صورته، لأنّه حكايةُ صورته.

تنتمي الصورة إلى الماضي ولكنّ دلالتَها بِنْتُ المستقبل، هي تدعونا إليها لتَحْكِينا لنا. إنها تسمع ما نقول وما لا نقولُ، وعيْبُنا أننا لا نسمع دائما ما تقول هي. صورة الشيخ حسني تحكي لرائيها حكاية تختلف عما حَكَتْه أو ستحكيه لراءٍ آخر، إنها آلةُ إنتاج الكلام ومنجمُ الحكايات. ومتى سكتت الصورةُ عن الكلام جاع رائيها إلى سماع حكايتها فيعود إليها ويُحييها، ذاك دأبُنا مع حافظة صور ذكرياتنا: نتذكَّر دومًا لنَنْسَى دائمًا. ولعلّ ما يشدّ الانتباهَ في صورة «الشيخ حسني» أنها صورة ملوّنة لرَجُلٍ لا تعنيه الألوانُ، صورةُ رَجُلٍ أعمى، أو هكذا يُسمّيه الإنسُ ويُكذِّبُهم سلوكُه: فهو يركب الدراجة النارية دون اهتمامٍ بإمكانِ السُّقوط، ويجول بأعمى آخر (الشيخ عبيد) في الشارع دون خشية التيه في «شارع مراد»، ويدخل معه السينما ويحكي له أحداثَ الفيلم المعروض كما يتخيّلها هو لا كما هي واقعةٌ في الفيلم نفسه، يحكيها وَفْقَ بناءٍ دراميٍّ عالٍ لا يقدر عليه إلاّ مَنْ آمن بعَمَاه، يحكيها دائما بقوله: «الله، الله، آه يا سيدي آه، آه يا عيني آه، أه  لو كُنْتِ شَاِيفْ إِلاَّ آنا شايفو دِلْوَقْتي يا شيخ عبيد، حقيقي، حقيقي النَّظَر نِعْمَة». فعلاً: إنّ نظرَ الأعمى نعمةٌ.


[1]  الزّمر، الآية 6.

[2]  اُنظر:  Lettres (Spinoza)/XVIII. Spinoza à Blyenbergh

[3]  جاء في الإصحاح التاسع(عدد 1-5): وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:»يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوعُ:»لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ».
4 سورة: عبس، الآيتان 1و2.[4]