ليلة يطلّ أسامة الدناصوري

هشام أصلان
الأربعاء   2016/01/06
"تصوّري لا مساجد هنا ولا مؤذنين، لا وزارة للثقافة ولا أتوبيسات للنقل العام"
1
أنا فيلسوف الشلّة
المُقعد الذي يحب الجميع
ولا يكرهه أحد
"أسامة الدناصوري، 1960 ـ 2007"

2
كانت ليلة مزدحمة بالناس ومفعمة بالهدوء. أينما تجولت بين الواقفين في المقر الجديد لدار ميريت، رأيتهم يتكلمون بهمس. وأنا مندهش. لم تبدأ الأمسية بعد، كلما سألت أحدهم، لماذا يتحدثون بصوت منخفض؟ قال: لا أعرف، وابتسم.

في واجهة القاعة (نعم أصبح لميريت قاعة جميلة تحتمل استضافة الندوات)، استقرت مدفأة حجرية، ثُبتت فوقها صورة كبيرة يطل منها وجه أسامة الدناصوري، على حضور الأمسية، وأوراق تحمل نصوصه متدلية من السقف بخيوط رفيعة، في ضوء خافت. بعد قليل تُعلن أسماء الفائزين بجائزة تحمل اسمه، أسسها أصحاب العمر.

الشاعر الذي لا يليق تثبيته عند لحظة رثاء، بتعبير وائل عبد الفتاح، لا تنقصه جائزة تخلد اسمه. هي محبة الرفاق، الذين أصرّوا أن تكون مستقلّة، وإن كانت بقيمة مادية رمزية. ارتباك الدورة الأولى لم يفسد شيئًا.

شهادات وقراءات لمحمد بدوي وإيمان مرسال وياسر عبد اللطيف وعلاء خالد وفاطمة قنديل وحسن عبد الموجود وأحمد يماني وعبد الحكم سليمان وأحمد ندا.

بالكاد، سمعنا أصوات المتحدثين. الناشر محمد هاشم كتب بعدها أن ضعف الصوت يرجع إلى نقص في مكبرات الصوت التي صادرها أمن المصنفات بعد مداهمة الدار منذ أيام!

3
وقف أسامة الدناصوري على تخوم الثمانينيات، ليلج التسعينيات مرتاحًا مع التوهج الكبير لقصيدة النثر المصرية، وتكوين جيل له ثِقل في هذه المنطقة، وتنوع شعري مُرضٍ للأذواق المختلفة. لم أعرفه شخصيا، ما يساهم في قراءة خالية من العاطفية تجتاح، بطبيعة الحال، أصدقاء عمره وأصحاب المشوار.

في البداية قرأته ساردا فاتنًا، عبر رواية "كلبي الحبيب كلبي الهرم". الناقد محمد بدوي يصرّ على أنها كتاب بديع لليوميات وليست رواية. لا يهم، رأينا مؤخرًا تجاوزًا كبيرًا لمسألة التصنيف. أنت أمام حكاء يُطلعك من ثقب إبره على عالما شديد الاتساع، مأساة مرضى الفشل الكلوي في مصر، مرارة آلام المرض، و"بهدلة" المستشفيات الحكومية، وحدات الغسيل، ومجتمع كامل يعيش في هذه المنطقة، المرض رابط وحيد لمواطنيه. مجتمع لا يسكنه المرضى وحدهم، بل الأطباء والممرضات والزوار، شبكة عجيبة من العلاقات الإنسانية، وهي غالباً قصيرة المشوار، حيث لا يطول العمر بكثيرين.

غير أن كتابته ليست نوّاحة، فقط يحكى بأريحية عن تلك العلاقات بالأشخاص والعقاقير وأجهزة الغسيل: 
"أحببت قسم المسالك البولية بالدور الخامس كبيتٍ لي، عندما أسير في الطرقات الطويلة، ذات السيراميك الأبيض، والجدران البيض، أحس للتو بأني أسير في أماكني الأليفة، وظللت إلى الآن أسيراً لرائحة المطهرات القوية، التي تنبعث من الذاكرة لتملأ أنفي، عندما أجد نفسي فى أماكن تشبه المستشفى".

صاحَب الفشل الكلوي، فلم يكن يضايقه إلا عندما تعكر القسطرة صفو علاقة جنسية.

4
"صباح الخير يا إيمو، طلعت أون لاين أكثر من مرة ولم تظهروا يا أولاد الكلب. فرقُ التوقيتِ عار وما باليد حيلة. كلّه تمام، أكثر ما يعجبني في ما يُسمّى العالم الآخر هو بُعده عن فيصل، تصوّري لا يوجد هنا مساجد ولا مؤذنين، لا وزارة للثقافة ولا أتوبيسات للنقل العام. كلُّ النساء.. كلُّ النساءِ جميلات وكريمات حتى أنني لم أرَ محجبةً واحدة في الشوارع.
أفتقد الذهاب إلى مراكز غسيل الكلى، سألت الحُرّاس هنا فأخبروني أنه وببساطة لا توجد أمراض بعد الموت. ألم أقل لكِ؟ باستطاعتي الآن أن أشربَ الماءَ كما أحبّ دون أن أقلق على خروجه بسلام".
*إيمان مرسال، نص بعنوان: إيميل من أسامة الدناصوري.

5
لم يكن الوحيد الذى ينتظر موته بين الحين والآخر، كان الأصدقاء ينتظرون، وأمه أيضا:
"إنت مؤمن بربنا وبالإسلام؟"، لا تصارحه بحقيقة مشاعرها، تبرر سؤالها بأنها، فقط، تريد الاطمئنان قبل موتها، يعرف أنها ليست الحقيقة، يقوم للوضوء والصلاة أمامها لترتاح. لكنها لم تصدقه أبدا.


(*) جائزة أسامة الدناصوري للشعر، قيمتها خمسة آلاف جنيه، تُمنح لديوان لم يُطبع بعد، على أن يطبع في دار "ميريت".. فاز بها في الدورة الأولى: نهى البلك عن ديوان "هرم أبيض من السكر يسر الناظرين"، وأحمد عبد الرحيم عن ديوان "كل هزيمة لهم رمز لما بداخلى"، ونوهت لجنة التحكيم بديوان "تسقط من شرفة دهشتها" لأماني خليل و"قصائد مستقطعة" لأمل إدريس.. والدناصوري صاحب إحدى أهم التجارب في تاريخ قصيدة النثر المصرية، صدر له: "حراشف الجهم"، "مثل ذئب أعمى، "على هيئة واحد شبهي"، "عين سارحة وعين مندهشة"، "كلبي الهرم.. كلبي الحبيب"، ثم مجلد للأعمال الكاملة، عن دار ميريت، أضيفت إليه نصوص سردية غير منشورة من قبل.