محمد خياطة: يشمّع الخيط ويمشي.. وربما يهرب

ميموزا العراوي
الجمعة   2016/01/01
اعمال تعبر عن غوغائية الثقل وسريالية مفاعيله
يقدم الفنان التشكيلي السوري محمد خياطة (1985) سيرة ذاتية لا تخلو من روح الدعابة. روح استطاع عبرها من أن يسرد لحظات قاسية وخواطر مريرة من حياته اليومية، السابقة والحاضرة من دون أن يقلب الجدران ويحطمها على رأس كل زائر وطأ أرض معرضه المُقام في صالة "رميّل" في منطقة الجميزة، تحت عنوان "المشي على الخيط".

اعتمد الفنان طريقة طريفة في عرض أعماله، التي تعددت أحجامها واستخدم فيها مادة الأكريليك والحبر على الورق، إذ رسم على جدران المعرض خطاً رفيعاً يصل كل لوحة مع التي بقربها. بهذه الطريقة استطاع "خياطة" اللوحات – الشذرات بشكل سرديّ شيّق ورقيق، يمكّن المشاهد من أن يبني في ذهنه نصاً بصرياً واحداً عن ما أراد الفنان التعبير عنه من خواطر ومشاعره. وفي إحدى مراحل تقدّم هذا الخيط المرسوم، يُفاجىء الفنان المُشاهد بشخوص دقيقة مرسومة بقلم رصاص رفيع، تحاول أن تتماسك بشكل مُضحك، لتكمل سيرها من دون أن تهوي أرضاً. خلط ناجح ما بين المزاح والحزن من دون أن يشبه فنّ الكاريكاتور بشيء. مزيج حاذق خلق التعاطف في عين الناظر إلى الشخوص وإلى قدرها الغائم أيضاً.

لن يخرج زائر المعرض إلا وقد قرأ فصول حكاية محمد خياطة حتى آخر صفحة. ولعل موهبة الفنان الشاب منعت هذا الكتاب البصري المفتوح بكل وضوح أمام زائري المعرض، من أن يكون كتاباً مملاً، إذ لا غموض فيه. فكل لوحة، لا بل كل ورقة من كتاب الفنان تأخذ الناظر إليها في رحلة إلى مشاعره، هو وأفكاره وليس فقط تلك التي تخصّ الفنان. مشاعر وأفكار تتعلق بهشاشة العيش، وقسوة النزوح عن الوطن، وأهمية الحب، وضرورة الإحساس بالأمل، والرغبة في نوم فردوسي خالٍ من الهواجس والكوابيس.

ثمة لوحة للفنان يظهر فيها وجه شخص مستدير، يخرج من خدّه إبرة ومن خده الثاني خيطاً تتأرجح منه حقيبة سفر. تذكّر هذه اللوحة من ناحية بعملية النسج بالخيط التي بنى عليها الفنان معرضه، وتحيل من ناحية أخرى إلى الإحساس بالألم الثاقب الذي لا مفر منه، لكنه ألم مُخدر للحواس، حواس الفنان وحواس الناظر إلى أعماله حتى ولو فقط إلا حين. كأنما الفنان يريد أن يقول: هذا الكائن الهش الذي أرسمه قادر على تخطي وجعه وغربته بهدوء فلا ضرورة لمساعدته. هو قادر على ذلك لوحده، والوقت كفيل بمعالجة الأمر.

كما تتميز وجوه الفنان بعيون صغيرة متوقدة كثيرة التعبير، ونافذة التأثير في النفس. عيون لا تحتاج إلى لون قوي أو اتساع لكي تكون قادرة على تحريك المعالم المحيطة بها والمُتميزة بالبساطة من ناحية الخطوط والألوان المستعملة. فالإختصار والتقشف اللوني هما إلى جانب الفنان في هذه المجموعة من الأعمال وليس ضده البتّة.  

ثمة أشكال ومواقف لا يمل الفنان من استخدامها. يفعل ذلك، لكن كل مرة بطريقة مختلفة لا تخلو من الطرافة ومن فظاعة ما يُريد التعبير عنه في الوقت ذاته. نذر من الأشياء: قدح الماء، والمقعد والوسادة. ومن الأحوال: الإرتفاع والإنخفاض، والتواء الرأس تحت أثر ثقل ما.
أما التلوين الخفيف الذي يتسرب إلى زوايا شخوصه وكائناته المرسومة، فيساهم في إعطاء ثقل للمعاني، فحتى الرسوم التي اصطبغت كلياً باللون البرتقالي، أو لنقل بمحلول اللون البرتقالي المُخفف بحساسية، جاءت مُعبرة عن رغبته في السرد وليس في الثرثرة، ما أعطى الأعمال صفة الومض. أي أن دواخل لوحاته تومض للحظات، تؤثر، وتغيب لترك المكان لما تريد أن تقوله اللوحة التالية، فالتالية، حتى آخر لوحة في المعرض.

في آخر المعرض أو في أوله، وذلك حسب وجهة الزيارة، نجد لوحة كبيرة لفتاة بفستان أزرق، وبالخفة المُحببة ذاتها التي رأيناها في اللوحات الأخرى. يطلق عليها الفنان اسم "مهى"، وبالقرب من هذه اللوحة تقع ثلاث أو أربع لوحات صغيرة للفتاةنفسها، تحمل أيضا عنواناً واحداً هو "مهى"...  و"مهى" فتاة نعثر عليها في جميع الأعمال التي تضمنت صورة فتاة، وهي تضفي دفئاً رقيقاً لا يلبث أن يغيب.

فكرة أخرى تسيطر على أعمال الفنان، وهي فكرة التناقض ما بين الثقل والخفّة في أحوال واحتمالات غير معقولة، خاصة إذا ما جرت مقارنتها ببعضها البعض. فنجد رأساً ينوء تحت حمل زجاجة ماء، وآخر بالحجم نفسه يتدلى من جبينه مقعد مُنجد وغليظ لا يبدو أنه يتعبه البتة. ونعثر في لوحة أخرى مدينة بأسرها يرفعها الفنان في منطاد واحد، أما في لوحة أخرى يعنونها الفنان "على راسه رصاصة"، فنجد الرأس الذي يحمل الرصاصة العملاقة التي تضاهيه قادراً على حملها في بساطة غرائبية.

انها  اعمال تعبر عن غوغائية الثقل وسريالية مفاعيله. يراكم الفنان الإحتمالات غير المعقولة ليقنع المشاهد بمصداقية نصه الفني وبأثر الأفكار والمشاعر على مسار كل انسان سار على حدّ الخيط ما بين النار والنور.