"ستريو".. رحلة تشويقية لا تبارح العقل

محمد صبحي
الثلاثاء   2015/09/22
الأسلوب الذي اختاره إيرلينفاين يعطى مساحة للتفكير في فيلم يمكن اعتباره للوهلة الأولى فيلماً نوعياً آخر أو كوميديا أصدقاء
ضمن عروض "أسبوع الفيلم الألماني" في بيروت يأتي فيلم "ستريو" Stereo (*) للمخرج ماكسميليان إيرلينفاين (1975). يتأسّس الفيلم على نمط مثالي للحياة، تماماً كغيره من الأفلام العديدة التي اختارت مثل تلك البداية الهانئة لحكاياتها الكابوسية اللاحقة.

يعيش إيريك (يورغن فوغل) حياة بسيطة، تدور أيامه حول إصلاح الدراجات النارية في ورشته الصغيرة باحدى البلدات الهادئة، والتودّد لصديقته –وكذلك الأم العازبة- جوليا (بيترا شميدت شالر) ولعب دور الأب لابنتها المحبوبة ليندا (هيلينا شونفلدر) مع انطباع أول سيء يؤخذ عنه نظراً لأن والد الصغيرة كان رجل بوليس. بالطبع عقود سابقة من الصياغات الفيلمية تخبرنا أن حياته الوادعة تلك لن تبقى على حالها. إيريك يرى "أشياء" أيضاً. بالتحديد، شخصية مقنّعة يبدو وجهها المسجى كمثال على الغموض الذي لا تحمد عاقبته. يرى إيريك الرجل على مقود شاحنة مجتازاً ورشته، وكذلك يراه من مسافة بعيدة على أحد الطرق المهجورة، يراه من نافذة مطبخ صديقته في حقل قمح. يبدأ إريك أيضاً في التجسس على شخصيات غامضة تراقبه من بعيد، وبوصولهم إلى أحد أوكار رجل العصابات كيتل (جورج فريديريك) تمهيداً لاقتحامه، تبدأ ومضات من ماضي إريك في الظهور.



سريعاً يتم تعريفنا بتلك الشخصية الغامضة، هنري (موريتز بليبترو، ستشاهدونه أيضاً في "القطع" لفاتح أكين)، كمفتتح لسلسلة من التطورات غير المتوقعة لحبكة الفيلم التي تحافظ على التشويق.

في العادة، لا يصنع الألمان أفلاماً نوعية (genre films) جيدة، ففي الغالب يتحوّل الأمر إلى كيتش. لكن في فيلم المخرج والكاتب ماكسميليان إيرلينفاين، يظلّ الحبل مشدوداً بين الكوميديا السوداء والإثارة المُقنعة بطريقة متوازنة. يساعده في ذلك عمل اثنين من أبرز الممثلين الألمان تحت إدارته كلّ في مواجهة الآخر: فوغل بشخصية إريك المضطربة والعنيدة، يقابله بليبترو وبراعته في تلبُّس شخصيته بمراواغتها ووضاعتها.

في فيلمه الروائي الثاني، ربما يقوم إيرلينفاين بوضع قصّته في قالب تشويقي ومع ذلك فإنه لا يخشى الإنحراف عن هذا المسار كذلك. جنباً إلى جنب مع وصول أصدقائه الجدد/القدامى غير المرغوب بهم، يتقابل إيريك مع هنري، ويبدو الأخير واثقاً من معرفة ما يفكر به. ولكن هل هما كيانين حقيقيين أم أن ذلك عالماً مشيداً في عقل إيريك؟ سريعاً أيضاً، يوضّح الفيلم يقين إيريك من عدم وجود هنري فعلياً، حيث يجنّد كل ما من شأنه مساعدته لتطهير وجوده من هذا الدخيل. بالنسبة لإيريك، يبدو هنري محض هلوسة، رجل لم يره من قبل قط، يظهر فجأة ويهمس إليه برغباته البدائية، مُلمّحاً إلى ماضٍ عنيف لا يتذكّره يإريك أو يرفض وعيه الإعتراف به. يسعى إيريك للتخلّص من هنري، بداية من زيارته إلى المستشفى المحلي ثم في معالجته على يد معالج روحاني يميل إلى الوخز بالإبر. مرّة أخرى نشاهد الكيمياء المضبوطة بين فوغل وبليبترو: بينما يقترب إيريك من الشفاء، ينكمش هنري على ذاته من دون أن يفقد كاريزميته المغناطيسية وتأثيرها الجاذب.

العلاقة بين الممثلين تبدو كشريط يؤطّر كوميديا أصدقاء (buddy-comedy): في أحد المشاهد يلعب إيريك وهيلينا في غرفة المعيشة ويتحدثان عن أصدقائهم "المتخيّلين" في حالة من عدم الإرتياح والضحك بصوت عالٍ بفضل بليبترو، المستلقي على أريكة الغرفة، ملقياً واحدة من جمله مفادها أن إيريك وهنري فقط هم من يمكنهما السمع. ربما يكون ذلك مزحة ولكنها لا تفقد أبداً حمولتها من عدم الفهم والإحساس بالعيش تحت التهديد.

في لحظات سابقة من الفيلم حين يكون إريك غير مرتاح مع ظلّه المُكتشف حديثاً، يكون على المتفرّج تحمّل الظلام الكلاستروفوبي للورشة بينما يتبادل الشتائم مع هنري. ثم ينفتح باب ويدخل ضوء الشمس الذي يبدو كإنارة حرفية ومجازية في آن واحد. في هذه الطريقة، يملك مدير التصوير (الفيتنامي ثاي شاي نجو) حِسّا حادّاً في المقابلة، مستخدماً مشهدية الريف المثالي لمواجهة الظلام المتأصّل في عقل بطل الفيلم.

خلال النصف الأول من الفيلم، تتطوّر الشخصيات بدقة من المخرج الذي يلقي للمتفرج مجموعة من التفاصيل ليختار منها أو يتركها وراءه، وهو ما يعني -ضمنياً- تورّطنا كمتفرّجين في خلق حكاية الفيلم. النصف الثاني يفقد كثيراً من تلك البراعة في محاولته الوصول إلى نهاية وحشية ودموية في طبيعتها. يبني الفيلم تشويقه على الفرضية الأولى المستندة إلى ميل سيكولوجي قبل أن تكشف عن نفسها بطريقة مختلفة في سلسلة مميزة من تحوّلات الحبكة (plot twists). النيّة الطيبة التي يتم بناؤها في مشاهد رثائية بين إيريك وليندا وجوليا، تُفقد في الطريق نتيجة هرولة صنّاع الفيلم إلى إنهاء الحكاية عند ذروة درامية تتماثل في ذلك النوع من الأفلام، أفلام الإثارة والإنتقام.

الأسلوب الذي اختاره إيرلينفاين لانجاز فيلمه يعطى مساحة للتفكير في فيلم يمكن اعتباره للوهلة الأولى فيلماً نوعياً آخر أو كوميديا أصدقاء. هناك الكثير للإعجاب به في الطريقة التي يحدّد بها المخرج مِزاج فيلمه من خلال ساوند تراك إلكتروني هادر، وتأسيس ثيمة الإزدواجية في كادرات متجوّلة تتناوب بين الفضاءات الواسعة واللقطات المقربة الحميمية والمشاهد الخارجية المشرقة والزوايا المظلمة. هناك أيضاً الكثير من المتعة في المراوحة جيئة وذهابا بين إريك وهنري – والتمثيل المتمكّن من فوغل وبليبترو- بما في ذلك الفكاهة المنتشرة في فضاء الفيلم الخانق والساخرة من رداءة الوضع عموماً، كذلك نجد المشابهة الهزلية في أصدقاء الطفولة المتخيّلين.

لكن "ستريو" يبدو أملس من الناحية البنائية: الموسيقى الإلكترونية، والألوان الفاقعة على الشاشة (خصوصاً في خاتمته حيث النادي الأندرغراوندي الذي يخرج من اللا مكان ربما لأنه بطبيعة الحال فيلما ألمانياً) تعيد التذكير بالفيلم الأميركي "جون ويك"، فيلم آخر لعب بلا خجل على استعارات نوعه السينمائي ليقدم حالة تشويقية مميزة. نصّ "إيرلينفاين" يتعثّر جزئياً في محطته الأخيرة بسبب من إخلاصه المتعمّد للوقوف مع توقّعات الجمهور لنهاية مركّبة بأناقة ربما فقط لمكافأة تعاطفه (الجمهور) تجاه المسار التراجيدي لأسرة إيريك. في بعض الأحيان ينزلق حوارالفيلم إلى منطقة مشابهة من حيث توقُّع ما سيُقال، ولكن من غير المرجح أن يدخل المرء فيلماً كهذا باحثاً عن الإسهابات الشاعرية!

إجمالاً يمكننا القول أنه بدلاً من الإرتكان إلى الحبكة المعتادة عن الحياة الحلمية التي تأخذ منحى خاطئاً ومن ثَمّ التعامل مع المعضلات الخطيرة التي ستأتي حتماً، يستخدم الفيلم عقل بطله كساحة لعب، مقدماً بشكل مبكر ذلك النوع من التحوّلات التي يدخّرها الآخرون للجزء الثالث والأخير من أفلامهم، جزء التنوير والحقيقة والكشف. في النظر إلى ذلك فإن الطموح يصبح كبيرا لدى المتفرّج. هذا فيلم يغيظ أقرانه ويبدأ تشويقه من النقطة التي ينتهون إليها، في خيار مُنعش يضعه كعمل حول تمثيلات الصراع الداخلي بدلاً من التمادي والدخول في صراع فانتازي مع قوى خارجية، مع إبقاء الدراما الحقيقية تتمحوّر حول إريك (داخله بالتحديد) حتى حين تطلق المسدسات رصاصاتها أو تتحلّق القبضات من حوله. وبفضل فوغل وبليبترو، امتلك "ستريو" قوة "نجومية" دافعة كي يحقق النجاح في شباك التذاكر الألماني، ولكن في عمليته المعقّدة لخلق الحيرة ولعبة الإحتمالات الممكنة والأداء المكثّف والجيّد لشخصياته، يحجز لنفسه مكاناً مميّزاً في عالم سينما النوع.

 (*) يُعرض "ستريو" في "متروبوليس" (أمبير ــ صوفيل -بيروت) الثلاثاء 22 أيلول/سبتمبر الساعة العاشرة مساء