انتباه! الأغنية السياسية عائدة بنكهة "بانك روك"!

حسن الساحلي
السبت   2015/07/04
يمكنك أن تطلق النار على جثة هامدة لكنك لا تستطيع أن توجعها مجددا
لم تشكل الحرب الأهلية اللبنانية خلال سنواتها الـ15، أغنية سياسية مستقلة عن أطراف الصراع اللبناني الدائر. حتى ما يمكن تسميته موسيقى بديلة خلال تلك الحرب قد كانت تدور بشكل أو بآخر حول مشاريع سياسية أو"ثورية" تستمد خطاباتها من خلالها. هذا ما يبدو مفهموماً ربما، فقد انتظرت "الحرب" ولادة جيل آخر، غير مرتبط بها بشكل مباشر، تشكل وعيه بعد انتهائها الرسمي، لتتشكل أغنية سياسية جديدة غير مرتبطة بهذه الحرب وشروطها. كما أن هذه الأغنية ومع التطور التكنولوجي الذي شهدته فترة التسعينات، استطاعت أن تستقل بشكل سريع عن "رموز" الأغنية السياسية السابقة المسيطرين بشكل أو بآخر على الإنتاج الموسيقى البديل، فعلى سبيل المثال، ارتبطت جميع فرق الروك والجاز، التي أنتجت أعمالا موسيقية في غرب بيروت، بزياد الرحباني الذي كان يسيطر بشكل أو بآخرعلى شروط هذا الإنتاج.

لكن ومع انتهاء الحرب ومع التطور التكنولوجي الذي شهدته الساحة الموسيقية في التسعينات، تمكنت فرق موسيقية عدة من الظهور بشكل مستقل عن المشهد السابق، فمثلا كانت فرقة "الصابون يقتل"(soap kills) التي اتصفت بدايتها بتوجه سياسي واضح يظهر من خلال عنوانها الذي يحيل الى سلبيات تنظيف بيروت من آثار الحرب وسلبيات حذف الذاكرة، كانت تقدم حفلاتها بأمكنة متشكلة حديثا مثل ملهى الـBO18 الذي قدم دعماً مهماً لمشهد الروك في بداياته عن طريق تنظيم حفلات دورية في موقفه الخاص. لكن هذه الفرقة توقفت اليوم بعد توجه أعضائها الى أمكنة أخرى. كما تشكلت فرق أخرى عن طريق نوادي بعض الجامعات منها نادي الجامعة الأميركية في بيروت الذي ساهم بالتقاء أعضاء فرقة تستمر الى اليوم هي فرقة البانك روك Scrambled Eggs (البيض المخفوق)، شارك في تأسيسها كل من شربل هبر ومارك قدسي العام 1998 وتغني باللغة الإنكليزية. اعتبرت موسيقى الفرقة الصاخبة في الوسط الفني ممثلاً شرعياً لما سمّي "ضجيج ما بعد الحرب" حيث شكلت أغانيها نقداً لاذعاً لمشاريع الحرب الأهلية "الفاشلة".

في كتابه "مشاهد الموسيقى المحلية والعولمة"، قدم الكاتب السويسري توماس بورخالتر تحليلاً لبعض أوجه هذه المشاهد كما أنه أجرى مقابلات مع رموزها. إحدى هذه المقابلات كانت مع شربل هبر، مؤسس فرقة scrambled eggs وأحد مؤسسي مشهد الموسيقى المرتجلة في بيروت، والذي يبدو أنه أثّر في خطابات فرق الموسيقى البديلة في بداية الألفية الثالثة. يتحدث الهبر في هذه المقابلة عن أبرز الأفكار التي تأثر بها: "أنا ولدت في وسط يكن عداءً كبيراً للقومية العربية، لكن وفي الوقت نفسه، لا أعاني أي مشاكل مع هويتي العربية"، يضيف: "لكن أنا في عدائي للقومية العربية أكن عداء أكبر لليمين المتطرف المسيحي"... ويؤكد الهبر أنه ضد "الأفكار الكبيرة" بكل أنواعها كما أنه ضد المشاريع السياسية. ويقصد الهبر طبعاً بتلك الأفكار، مشاريع الحرب الأهلية التي آمن بها جيل أهله والتي شكل فشلها إحباطاً لهم. لكن الهبر لا ينفي تأثره بأنماط تفكير أخرى "كنت معجباً في بدايتي بشكل كبير بموسيقى البانك روك ( Punk Rock)وأحب المشاركة في حفلاتها.. كنت أعتبر نفسي أحد المنتمين الى ثقافة البانك، وترتبط هذه الثقافة ارتباطا وثيقا بالفلسفة الاناركية التي انتمى إليها مثلاً المخرج غسان سلهب، أحد أبرز المخرجين السينمائيين العاملين على ثيمات الحرب الأهلية في فترة التسعينات". وإذ ترتكز الأناركية على رفض النظام والقوانين وأي انتماء عقائدي، يبدو أن هذه الثقافة بدت مناسبة للوضع السياسي اللبناني بعد نهاية الحرب، حيث واجه الهبر ورفاقه انتهاء مشاريع الحرب اللبنانية من دون أي مشاريع بديلة، فكانت البانك ربما المكان الوحيد الذي استطاع هؤلاء اللجوء إليه.

لكن بعد سنوات من ذلك، ومع انتهاء مرحلة إعادة الإعمار، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ثم موجة الإغتيالات السياسية والتفجيرات، عادت موسيقى البانك مجددا مع فرقة أخرى خطت خطوات شبيهة بخطى scrambled eggs لكن مع اختلاف الظروف. الفرقة هي "The incompetents" التي تشكلت من سيرج يارد وفادي طبال - أحد أعضاء فرقة scrambled eggs. ولا يخفي أعضاء الفرقة انعكاس الجو السوداوي العام للبلد على موسيقاهم، لكنهم، وفي طريقة طرحهم للموضوع، يأخذون الموسيقى السياسية هذه الى مكان أبعد: "يمكنك أن تطلق النار على جثة هامدة لكنك لا تستطيع أن توجعها مجددا"، هذه كلمات إحدى أغاني الفرقة التي تظهر نمط تفكير الفرقة المستسلم بشكل كلي أمام الوضع السياسي للبلد، المهدد مجدداً بالحرب الأهلية والذي وضعهم في مكان جديد. ويتسم عمل الفرقة بتحرر كبير من القوانين الموسيقية وطرق الغناء كما أنه وفي طريقة عرضهم لأنفسهم يحاولون إظهار عدم اكتراث بشكلهم الخارجي أو باستعراض قيمهم الذكورية التي لم يتوانوا عن إهانتها في أعمالهم البصرية بشكل متعمد.

وفي تسميتهم لأنفسهم بـ"غير الكفوئين" يؤكد أعضاء الفرقة على الرسالة السياسية لأعمالها التي تحاول أن تقول بأننا نحن - غير الكفوئين لبناء وطن وبناء أي شيء آخر - قد فشلنا. وتحمل الفرقة نقداً لاذعا للذكورة، فيظهر سيرج يارد، مغني الفرقة، في أوضاع نسائية، كما أنه ومع فادي طبال تعرضا للتعذيب من فرقة نسائية (Deep Throat) احتجزتهما وسرقتهما في أحد فيديو كليبات الفرقة التي أخرجها المخرج الإيطالي جيجي روكاتي. ولا ينفصل هذا النقد للقيم الذكورية عما يعتبره هؤلاء سبباً أساسياً للإقتتال اللبناني أي تمجيد القيم الذكورية والعنف والقتل.

يلخص شربل الهبر هذا النمط من التفكير الذي لم يعد يأبه بأي قوانين وأي أعراف، والذي يعتبر وجهاً من وجوه أغنية سياسية جديدة: "نقوم بكل شيء كأن العالم سينتهي في أي لحظة. نعمل كأن الحرب يمكن أن تعود أو أن السوريين من الممكن أن يعودوا أو إسرائيل ستقوم بحرب علينا أو حتى حزب الله يمكن أن يفتعل حرباً جديدة"، ويضيف الهبر: "عندما تكون في وضع مثل هذا، تشعر بأنه من الأفضل أن تقوم بأشياء تقترب من التدمير الذاتي".