حرب العصابات العُشبيّة

روجيه عوطة
الأحد   2015/05/24
"إذا تقدم عدوّه، تراجع، وإذا خيّم، ناوشه، وإذا تعب، هاجمه، وإذا انسحب، طارده".
من الصعب للمتسكع في بيروت، ألا ينبهه العشب الناتئ على الأرصفة، والطرقات، والجدران، من شروده. فأياً كان الإتجاه الذي تنصرف فيه عيناه، ستقع على بعض الكلأ، أو النبات الموزع من حولها. ذاك، أنه يركب العشواء، ويظهر بغتة، من دون أن يجيء ظهوره محدداً بعامل أو معيار أو ظرف بعينه. إذ لا جدوى من الإستفهام عن مكان العشب، "أين نجده؟"، وعن زمنه، "متى ينبت؟"، لأنه يفر من تعيينه بحدٍ أو بوقت، لينتشر على غير دليل، وينسل إلى مساحته، الضئيلة أو الواسعة، خفيةً قبل أن يبلغ بيانه. وهذا المبلغ ينذر بأن الكثرة تساوي الوَحدة، ففي حال كانت العشبة منفردة أو مسهبة، يظل بروزها على وقعه: مريب ومحال إيقافه.

يفلت العشب من الجهة التي أتى منها، ومن الجهة التي يذهب إليها، فلا يعير اهتمامه إلى الجهتين، مختزلاً إياهما بحضوره الهادئ على نشاطٍ لامرئي. فبالقرب من بنايةٍ جديدة، تفتعل خضرتها في جوانبها الإسمنتية، تنبت عشبة صغيرة، لتبدو كأنها تتهكم على البنيان الراسخ أمامها، وتهكمها يكشف عن مُخالفتها الإعتماد على غيرها، الضخم والجسيم، لكي تنجلي للعيان. وعلى بُعدٍ غير رأسي من مرجة مزروعة في حديقة عامة، تلوذ عشبة أخرى بالظهور، فلا تستسلم لمقصات الجز أو آلاته، التي تعيِّن طول الحشائش وحدود انتشاره في بقعةٍ بذاتها.

وعلى الطريق المتيقن من إسفلته ومتناته، تنبت عشبة مغايرة للقحل المحيط بها، بحيث تشق الزفت وتخرج لتتدبر هواءها وضوءها، بلا ذعر من زحمة السيارات وسرعتها، وبلا مبالاة بأن يلاحظها أحد. وفي باحة منزل من المنازل، الذي أُغلقت بوابته الحديدية بقفل وجنزير، ظناً من أصحابه بأنهم بفعلهم هذا يمنعون دخول غير الضيف في أثناء غيابهم، يأخذ العشب في السفور والتفرق، كما لو أن تحركه لا يخضع للتسريح والتسكير، أو للسدّ والإفراج. ذلك أنه، في قطعة أرضٍ سُيِّجت بشباك معدنية بغاية إصلاحها لاحقاً، ينتشر على ضوضاء خالية من الإنسجام أو المواءمة، وهذا ما يضيف إلى طلوعه نوعاً من الألق، خصوصاً أنه يجمع بين الهوادة والدأب في مجاورة حادّة.

في بعض الأحيان، أو بالأحرى النواحي، لا يلتزم العشب بأرضه، فيشدها نحوِّه، أو يجذبها معه إلى وجهته، التي لا يعلمها للناظر إليه ولا يعرفها. ينبت بين الحجارة، يتسلل من تحت الصفيحة الأضعف، يبرز ثم يفتت مؤخرة الصفيحة الأقوى، وعندما يفتح البلاط المرصوف، ينبسط نحو مداه الحيوي، الذي لا يُقبض عليه في مساحة أو أخرى. وبعطف الحركة العُشبية هذه على إعراضها عن الأرض، تحيل إلى بعض تعاليم حرب العصابات، لا سيما الماوية منها، إذ يخوض النبات معركته بلا أن يثبت في جبهة مستمرة، "أين الجبهة؟ إنها غير موجودة"، وبلا أن يوفر لعدوه المبني والمزروع والمؤسس على رص وقوة وزرع، أكان البناية أو المرجة أو الطريق إلخ. أي علامة على نتوئه، "فإذا تقدم عدوّه، تراجع، وإذا خيّم، ناوشه، وإذا تعب، هاجمه، وإذا انسحب، طارده".

ولأن العشب يظهر، على سبيل المثال، في الطريق، ثم يمتد إلى الرصيف، ليعود وينبت على الحائط، يقترب بفعله من خطة "تنظيم المجال لنيل الزمن، وتنظيم الزمن لخلق الإرادة" التي، في أثرها، يطبق على بقعة بأكملها. إنها حرب العصابات العُشبية، التي ينتصر فيها النبات لأنه لا يدخلها بهدف الربح أو الخسارة، بل تجنباً للهزيمة، مثلما لا يدخلها بأسلوب الأشجار، التي تطمح إلى الرسوخ في مساحةٍ، والإرتفاع فوقها، متمسكةً بجذورها وأغصانها، ومعينةً مداها العمودي، عدا عن انطباعها بعنصري الزمان، عبر ما يُعرف بحلقات عمرها أو تاريخها، والمكان، من خلال تحديد نموها بشرط ترابي، ومحاولتها الإنسجام مع محيطها، والتطابق معه.

إذ أن الأشجار تسعى إلى إنهاء حربها مع محيطها بأسرع وقت ممكن، كي تحصد خسائرها وتقلل منها، وهي بذلك أشبه بالعسكري الذي، في مقابله أو في مداره، يحضر مقاتل حرب العصابات الذي يستولي على أسلحته وذخائره، بحسب مبدأ أن العدو هو المصدر الرئيس للعتاد، راغباً في إطالة أمد الحرب لأن الأفق مفتوح لانتصاره. باختصار، يمارس العُشب تعليمات ماو تسي تونغ حيال تجنب الحسم: "إضرب وتملص، قاتل لتبقى حياً، تراجع أمام عدو مصمم، وأطبق عليه من خلفه كالبحر".

تالياً، لا يتماثل العُشب مع الشوارع والأرصفة والطرق والجدران بعد أن يجتاحها ويخرج منها، بلا أي ترك خلفه أي أثر من آثاره الحية، وحتى لو فعل ذلك، فلا يشير المتروك وراءه إلى المجالات، الذي قد ينبت فيها من جديد، خصوصاً أنها متغايرة ومتباينة، ولا تؤدي حركته إلى التجانس بينها. هو غير متأصل في أرضٍ، وغير جامد فيها، لا فصل له ولا أصل، ما ينتج قدرته على غزو الأمكنة بإنباتات لامرئية.

أن نسير في بيروت، ونرى الأعشاب والنبات والحشائش هنا وهناك، هذا ما يدفع البعض، على طريقة التنظيم البلدي وتنظيفه، إلى استئصالها، نظراً لكونها بشعة وبرية وشاذة، مثلما قد يدفع البعض الآخر إلى غض الطرف عنها، كي لا ينتهك لامرئيتها، ثم التفكير في العيش على منوالها.