"نُكات للمسلحين": الطفل بهذيانه الموجب

روجيه عوطة
الخميس   2015/04/23
عندما يُنكّت الشعر على السرد، يلقي به في قصةٍ، لا تُضحك بقدر ما تُباغت، لا سيما عندما يكون راويها ممسكاً بها على طولها، وتكون هي نفسها خارجة منه. فالقصة تنكّته أيضاً، أي تسحب ما فيه عبر جُمل، تتألف بدقة، من دون أن ينفي ذلك تتابعها المتلبد أو تداخلها الكثيف. على هذا النحو، يتضمن كتاب مازن معروف، "نُكات للمسلحين" (دار رياض الريس، 2015)، قصصه المسرودة على ألسنة قريبة من بعضها البعض، وتكاد تصير لساناً واحداً، ينطق في فم طفل. والأخير، لا داعي للسؤال إن كان يتخيل أو يتوهم، أولاً، لأن سياقه القصصي يتيح لوقائعه أن تتحقق، وثانياً، لأنه في أثنائها يتكئ على انفعاله ليحكي.

والإتكاء هذا توصيلي، ثم لا-واعٍ عند أخذه خارج محيطه الممثل في شخصيات الأب والأم والأخوة، والذهاب به إلى الطفل، بمعزل عن صِلاته سوى مع الحرب. والحق، أن الظرف هذا لا يصوّره معروف بالدارج أو الشائع من وصفه، درامياً على سبيل المثال لا الحصر، بل يستنتج الفوضى منه، لتحضر كتابته فيها كأنها مسار تركيبي. عليه، يحاول إنشاء معنى متفرقاً، وبالفعل نفسه، غير رمزي. ذاك، أن أمام كل تأليف يرتكز على خلل أو عطب أو انكسار، يحل التأويل ليُرجعه إلى دلالة كبرى، تعلوه وتُمسك به، بغاية تصليحه بالفهم أو حتى النقد. غير أن الفوضى التي يشتغل معروف فيها وعليها، لا تُعطف على ماضٍ ولا حتى على مقبل، هي ما هي: عنيفة ومفاجئة ومكتفية بلحظاتها المبعثرة، التي، على الرغم من أقاصيها، لا تبعث على شعور دون آخر، بل على كتابته بدونه.

في أطراف الفوضى القصوى، تُخلق الطُرَف، لتنشرح الأمكنة وتتبدل، أو تحوي بعضها بعضاً، أو لتفتح طرقاتها، التي يقف عليها المُسلحون. فالكاتب يستحصل على نكاته من الأشياء الموجودة حوله، يرتبها في إطار سردي، لا يقفله كثيراً، بل يظل نافذاً إلى أطر أخرى، تتوالى من بعده. تعينه طُرَفه على تعدي تلك الأطراف، وتأليف ذاته، ومواصلته هذا الفعل نحو غيره، لمؤازرته أو للتخلص منه: "أعرف أن النكتة الجديدة لن تجعل من أخي شحاذا سعيداً، لكنني أريدها أن تكون قوية لدرجة أنها تُدرج في سيرتي الذاتية، ومدّتها تكون أكبر من صوتها".

لا يكتفي الطفل السارد بإخراج النكات من وضعه، إلا أنه يهتم بعناصر تأديتها أو قصها على أساس التأليف المضاد لمنطق مغاير لها، منظم ومقفل. فإذا كان يستخلص الطُرَف من أطراف الفوضى، فهو، من أجل أن يركّب سرديته، يستنتج اللامعقول من النكات، ليخفف من وطأة أي نائبة أو حادثة، فما أن يخسر شيئاً في مكان حتى يربحه في مكانٍ آخر. كأن الطفل لا يتعرض للأذى والضرر، بل يمر، دائماً يمر، ولا يتوقف عن التحرك، عن الركض، ولو على ساق مفقودة، متخيلة، مكذوبة. والحال، أن الطفل يتغير، ويختلف باستمرار، نتيجة هذيانه الموجب، الذي يبدأ بانفعال-قرار وينتهي بآخر، يفتح على نكتة أخرى: "على الرغم من أنني أمضيت جل حياتي لا أجيد الابتسام، بت الآن أعرف بأنني الرجل القادر على قتل الناس بدعابة".

ذاك، أن نكات مازن معروف لا غاية منها سوى السرد، ولا هدف من نصها سوى التركيب، بحيث أنها لا تطرح عقدة منجزة لتحلها، وبعبارة ثانية، هي لا تصل إلى مقصد بعينه. ففي بعض الأوقات، تستقر خاتمتها على اللا-نفع، "لا فائدة يا رجل. لا فائدة"، وهذا ما لا يخفف من قيمة سردها، أو تسجيلها. ومثل شخصية "الحمّال" في إحدى القصص، يواجه السرد الذي يُنكّت الشِّعر عليه، معضلة واحدة، ليست متعلقة بـ"كيفية غسل ظهره"، بل غسل فمه والشفتين والأسنان، أي الابتسام. كيف من الممكن لهذه الطُرَف أن تفرج الشفتين؟ كيف يمكن لصوتها المضحك ألا يعود منخفضاً؟ ربما، على السارد الطفل لاحقاً أن يُنكّت على نفسه، فيضحى، على عكس "بابا"، "يستطيع أن يمشي أو يحرك يديه، أيضاً يستطيع النطق. ويبتسم".