أسئلة غير شرعية

منال الشيخ
الجمعة   2015/03/27
كانت المنطقة بحاجة إلى هزة جماعية (اللوحة لأثير الموسوي)
-1-

قبل سنوات الثورات و"الربيع العربي" بقليل، كنت أتحدث مع أحد المثقفين عن الكتابة وعن الجدوى منها، وكان رأيي مثلما هو اليوم؛ أن علاقتي بالكتابة هي علاقة موتورة ولن استغرب متى ما توقفت ولم استطع مواصلة الكتابة دون أن تسبب لي أزمة حقيقية. لأن الكتابة بالنسبة لي انجاز وانحياز شخصي سيصغر حتماً إن تضادّ مع الإنجاز العام والإنحياز للمجموع. وقد حدث هذا معي سابقاً وانقطعت عن الكتابة عشر سنوات بالضبط حيث لم أجد جدوى منها في لحظة الألم الكبرى. وقتها وصفني هذا "الصديق" بالمختلة عقلياً والمريضة نفسياً بطريقة ابكتني دون أن يستوعب أن ما كنت أقوله، وقد جربته، قلتهُ وأنا أقطّع لحمي مع كل كلمة يقينية أنا مقتنعة بها.

مرت السنون ويصادف أن اقرأ لهذا "المثقف" رأياً عن جدوى الكتابة يكاد يطابق تماماً رأيي.. لم أحزن لأنه استنسخني تماماً بتفصيل كل ما كتب بهذا الشأن، كوني ناقشت ذلك معهُ سابقاً وقد نشرتُ رأيي منذ بدايات الحراك في مقال، بل ابتسمت في خلدي وقلت لخياله:
- الآن أنت عاقل.

قبل الثورات كانت بلاده بعيدة عن الدم وعن الخراب ولهذا لم يصلهُ ما قلتهُ عن احساسي في لحظة عدمية أمام الفقد الشخصي والفقد العام. ما لم يفهمهُ العرب عن معاناة الشخصية العراقية خلال عقد، أدركوه في أقل من سنة بعد انطلاق "الحراك" في المنطقة. بينما نحنُ أدركنا ما هم فيه منذ اللحظة الأولى لانطلاقهِ. من كان في داخل دائرة النار ويحاول يائساً إيجاد أدوات لا يملكها كي يخمد النار ويخرج سليماً ليس كمن هو خارجها حتى لو كان على مقربة منها. حدود التماس بينه وبين الخراب ليست بالمسافة ولا بالملامسة بل بامتلاك مفاتيح منافذ الخروج منه. نحنُ كعراقيين لم نكن نملك حتى خيار المفاتيح، بل كانوا ينسخون لنا مفاتيحهم للخروج، وكان الثمن في كل الخيارات غالياً جداً. لا الذي آثر البقاء داخل البلد وصل مرحلة يستطيع فيها أن يشعر بآدميتهِ وعن جدوى حياتهِ وأن يفكر بالغد كاحتمال ممكن، ولا الذي خرج لمس السلام في روحهِ حتى بعد نجاتهِ من حلقة النار التي كان فيها.

لقد وصل الأمر بالبعض أن يحسدنا على خراب ما نحنُ فيه لأنه فتح لنا آفاقاً لن يحصل عليه هو بوضعه السابق. ولم تخيب الأيام أمنياتهم فكانوا معنا في الطوابير لانتظار رحمة السماء.

وكأن الفرد منا كان بحاجة لتجربة ميدانية كي يتفهم معنى الخراب والفقد، ولا أعرف كيف تفهمنا نحن واستوعبنا قضية فلسطين من دون أن نعيش تجربتها بشكل شخصي؟ هل للاسقاط الإعلامي والسياسي أثر في مفاهيمنا الانسانية؟ هل تَقدِرُ الاسقاطات الخارجية أن تغير هذا المفاهيم التي يفترض أننا نؤمن بها بغض النظر عن تفاصيل قضية ما؟ كل هذه التساؤلات والتوقفات أمام سلوكيات وتصرفات فئة من المثقفين العرب قفزت أمامي خلال الأربع سنوات الأخيرة وكيف أدركتُ أن هذه المنطقة كانت بحاجة لهزة "جماعية" كي ندرك أخيراً ما يمر به الآخر.

-2-

بإمكانكَ أن تكون ضد داعش وأخواتهِ وضد نظام بشار في الوقت نفسه من دون المقارنة بينهما. بامكانكَ أن تكون ضد صدام ونظام البعث وضد داعش وضد النظام "الطائفي" الحالي من دون المقارنة بينهم. بامكانكَ أن تكون ضد القذافي وضد العصابات المسلحة باسم الثورة من دون المقارنة بين عصر القذافي وعصرهم. بامكانك أن تكون ضد مبارك وضد الإخوان وضد نظام السيسي، الذي أجهض الكثير من منجزات الثورة المصرية، من دون أن تفقد حماسك في حب بلدك ومن دون أن تخاف المزايدة على مواقفك. بامكاننا دائماً أن نجنح إلى مبادئنا بدون مفاضلة بين السيئ والاسوأ. لأن المقارنة تضعف كيفية التعامل مع كل حالة على حدة. أكثر سؤال يوجه لي منذ سقوط نظام صدام هو:

- أيهما أفضل بنظرك، العراق تحت حكم صدام أم الآن؟
وغالباً يسبق السائلُ السؤالَ نوايا مبطنة بتذكيري بخراب بلدي كي يضمن جواباً يرضيه.

لا جواب لمثل هذا السؤال، لأنه سؤال غير شرعي في نظري. أية مقارنة بين قوتين سيئتين تمنح للسيء مكانة لا أرغب فيها. ما كنا نعيشه تحت ظل نظام صدام لم يدركهُ العرب لأنه كان يمثل لهم "البطل القومي" وحامي حمى البوابة الشرقية وأمل القضية الفلسطينية. لكن العرب لم يفكروا للحظة ما هو حال العراقيين تحت ظل حكمه؟ وهل نحن مهمون لهم أم من يملك منافذ النفط الذي كان يعود بفوائده من أجل قضاياهم وحمايتهم؟ السنوات أثبتت أن صدام بالنسبة لهم كان فوق الشعب العراقي بمراحل. وما نلمسه من عداء مباشر من البعض كان سبباً كافياً لعزلة العراق مؤخراً، اضافة إلى سياسة الأنظمة التي توالت على العراق بعد 2003 ولا ابرئ ذمة أحد منهم. الشعب العراقي عموماً وفئة من جنده خصوصاً دفعوا ثمن تهورات قائد بنى "مجده" العربي على أشلاء الأبرياء وعندما تحرر هذا البلد من سطوة مريض بداء العظمة أصبحنا بالنسبة للآخر فئة جاحدة لباني وحامي هذا المجد! الأمر الذي دفع كثير من "مثقفينا" العرب مؤخراً أن يروا داعش أهون علينا من النظام "الطائفي" الذي يحكمنا حالياً.

بالنسبة لي، الحرية هي أن تكون ضد أشكال الاستبداد كلها بدون مقارنة وبدون انحياز لطرف طارئ ما لمجرد أنه سيكون المخلص من كماشة دامية إلى فخاخ مستقبلية لن ندركها إلا بعد حين، وهذا ما حدث تماماً بعد المفاضلة بين أنظمة بائدة وبين قادم مُخلّص هو في الأساس "النسخة" المعارضة لتلك الأنظمة!