تاريخ كنوز الموصل.. كضحية

منال الشيخ
الجمعة   2015/02/27
فوجئتُ بأن أحد المشتركين في جريمة "الثور المجنح" كان زميلي في المدرسة الابتدائية!
لطفولتنا نصيبٌ من متحف الموصل. زيارات عائلية أو مدرسية كانت تنظمها مديرية التربية لنتعرف على آثارنا القديمة. أتذكر كيف كنا نتجول بصحبة مشرف على المتحف، يشرح لنا كل قطعة ومعلومات تاريخية عنها. ظهر اهتمامي بالمتحف والآثار عندما شاهدتُ، نهاية الثمانينات، أول اكتشاف عراقي لكنوز مطمورة في مدينة نمرود/كالخو، جنوبي الموصل. كانت لحظة هائلة وعظيمة وأنا أشاهد خبراً محلياً عن هذه الكنوز في أيدٍ عراقية، تهتم بكل تفاصيلها وتحاول نفض تراب الزمن عنها وإعادة بريقها المستحق إليها. بعض هذه الكنوز استُخرج من بئر في القصر الملكي في نمرود.

كنتُ، في إحدى الرحلات، جالسة على حافتها، وأنصتُ إلى صدى التاريخ المنبعث من عمق البئر والزمن. لم أكن أعلم بعد، أنني أجلس على تل من الحضارة والكنوز اتجاه قمّتها نحو باطن الأرض. بعد ذلك، صرنا نشاهد هذه الكنوز والآثار خاشعة ومنتصبة ببهاء في متحف الموصل، وبعضها في قصر أسرحدون في تل النبي يونس. هذا الضريح الذي كان معبداً، ثم تحول إلى كنيسة، ثم إلى جامع باسم جامع النبي يونس، حتى تم تفجير الضريح على أيدي عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" في الصيف الماضي.


بعد مدة من اكتشاف الكنوز، هزّ الموصل خبر سرقة رأس الثور المجنح، وقصّه بمقص ليزري ومحاوله تهريبه خارج البلد. تم القبض على المجموعة التي حاولت سرقة الآثار وحكم عليهم بالإعدام جميعاً. سرت الشائعات في المدينة أنهم اعدموا بالمقص الليزري نفسه الذي استخدموه لاجتثاث رأس الثور المجنح. كانت المفاجأة الشخصية بالنسبة إلي وقتها، أن أحد المشتركين في الجريمة كان زميلي في المدرسة في مرحلة الابتدائية. كان من عائلة معروفة وميسورة! تساءلت وقتها كثيراً ما الذي دفع بشاب ميسور وفي مقتبل العمر، لارتكاب جريمة معروفة عواقبها جيداً؟ رغم قوانين مكافحة وتجريم سرقة الآثار وتهريبها، كنا نسمع، بين الحين والآخر، عن عمليات تهريب وبيع للآثار تتم عبر الأردن. آنذاك، لم تكن العلاقات جيدة بين العراق وسوريا ليتم تصريفها عبر الحدود السورية وتركيا.

في حرب الخليج، وبعد هزيمة القوات العراقية أمام قوات التحالف، وقعت في الموصل معارك صغيرة، هنا وهناك، بين الأجهزة الأمنية، مع قسم من الجيش، وبين فصائل كردية مسلحة اعتبرت نفسها معارضة. كان المتحف أحد ضحايا هذه المعارك أيضاً بالإهمال، وتحول إلى مأوى للكلاب الشاردة والقطط. بحسب شهود عيان، صارت جماجم بعض الهياكل العظمية القديمة، الموجودة في المتحف، وفي متحف التاريخ الطبيعي، فريسة للكلاب السائبة التي لم تجد فيها رائحة النخاع، لكنها كانت مناسبة لتسليتها، وإلهائها عن جوعها، في ظل غياب الحياة في المدينة لأسابيع. 

كان هذا الإنذار الأول في رأسي عما ينتظر الموصل إن سقطت يوماً ما. ولم يخب ظني في ذلك. كان المتحف على بُعد خطوات من الخطر التخريبي الذي داهم متحف بغداد ومدن العراق ابان الاجتياح الأميركي العام 2003. لكن اللصوص اكتفوا بسرقة محتويات ثمينة من المناطق الأثرية. وبقي المتحف مغلقاً للترميم والتجديد، منذ أواخر 2003 حتى افتتح العام 2012 ومن ثم أغلق، إلى يوم سقوط المدينة في يد "تنظيم الدولة". 

كنتُ أتوقع، مثل آخرين، أنهم سيدمرون المتحف يوماً ما، لا محالة. بل واستغربتُ تأخرهم في هذا العمل المشين. سمعتُ أن الفيديو الجديد الذي بثتهُ حسابات "الدولة الإسلامية" في مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيه العناصر وهم يدمرون محتويات متحف الموصل، أنه مسجّل من أيام الصيف، وليس الآن. لكن، إن صحّ ذلك، لماذا اختاروا هذا التوقيت لبثهِ؟ لعل العملية تزامنت مع تدمير الأضرحة، ومنها ضريح النبي يونس الذي طاولت آثار تفجيره بعض البيوت القديمة المحيطة به. كان من ضمنها بيت استأجرته أغاثا كريستي في الثلاثينات من القرن الماضي، ومكثت فيه خمس سنوات مع زوجها عالم الآثار الذي عمل طويلاً في التنقيب عن آثار تل النبي يونس ونينوى عموماً.

إن بث مثل هذا الفيديو في الوقت الحالي، إنما هو رسالة إلى العالم، بأن عناصر "الدولة الإسلامية ليسوا لصوصاً"، وأنهم مستعدون لتدمير كل ما يخالف الشرع "حتى لو بلغ ثمنهُ مليارات الدولارات"، كما قال المتحدث باسمهم في الفيديو، وذلك بدلاً من تهريبه وبيعه وجني المال. ولا أستبعد أن يكون ما رأيناه يُخرَّب، مجرد مجسّمات، لا القطع الأصلية، لأنهم يعلمون جيداً قيمة هذه القطع ويعرفون أنها ستدر عليهم أموالاً طائلة لتمويل صفقاتهم من الأسلحة. ويجوز التساؤل: كم من القطع الأصلية حالياً في حوزة "الدولة"؟ وكم من القطع تم بيعها حتى الآن؟ ومن الشاري؟ وهل من جهة دولية ترصد؟

بيتي حيث نشأتُ، كان قريباً من ضريح النبي يونس ومن وسط المدينة الذي يقع فيه المتحف، ومعظم المؤسسات الحكومية، منحني هذه العلاقة المباشرة بالآثار. أخرجُ صباحاًن أقصد الجامعة، وإذ بسور نينوى، الذي تم تفجيره مؤخراً أيضاً، وبواباته الأثرية تحيط بي من كل الجهات. لا أكاد أمشي في منطقة إلا وهناك أثر لجدار أو بوابة أو أحجار ضخمة متهاكلة فوق بعضها البعض، باقية، شاخصة منذ العهد الآشوري إلى يومنا هذا. وكأن المدينة شقت حداثتها بأصابع فنان، من دون أن تمسّ أثر الزمن فيها. لا أعرف، إن استمرت "الدولة الإسلامية" في تدمير وسرقة إرث المدينة، ما الذي سيتبقى من اسم نينوى؟!