من أجل إيكولوجيا شاملة

روجيه عوطة
السبت   2015/10/03
البلاد ليست في أزمة، بل هي الأزمة، والحراك الذي تشهده ليس نتيجتها، بل هو الأزمة ايضاً
في واحدة من تظاهرات الحراك الشارعي، رفع أحد المتظاهرين لافتة، كتب عليها "ثورة على الحياة التي نعيشها بالحبوب والأقراص". قد يظن البعض أن الشعار، الذي يتعلق بمزاولة المُعاش النفسي بالمخدرات والمهدئات والمنومات ومزيلات القلق، لا يمت بصلة لمسألة النفايات. إلا أن ذلك غير دقيق البتة، نظراً إلى أن بلوغ البلد وضعه الحالي، حيث القمامة تتكدس في الطرقات والأزقة، لا يدل على إصابته بأزمة بيئية فحسب، بل بأزمة شاملة، لا يمر بها، كعارض مؤقت، بل تظهر من صميمه وعمقه، بعد أن استغلقت عليه، وعمد إلى التنكر لها.

الإنتباه إلى ما قبل بروز كارثة النفايات كفيل بالإشارة إلى سياقها، الذي بنته واقعات بعينها: مقتل سارة الأمين على يد زوجها، مقتل جورج الريف على يد طارق يتيم وعلى مرأى من الدولة والمأهولين بها، جثث متوزعة، في المطار، وتحت الجسور، وعلى جانب الأوتوسترادات، إنتحارات عديدة، في الرمل العالي، وفي صربا، وفي البسطة التحتا، وفي إهمج إلخ. فضلاً عن حوادث السير في ظل قانونه الرسمي الجديد، وعن العنف بحق اللاجئين والأطفال.

لقد دخل البلد في سبيل بلا منافذ ولا فُتحات، وهو سبيل كامن في كل الطرق، التي سلكها أو سيسلكها، كي يستمر في ركوده. لا شيء هنا على ما يرام، الإعلام والفن والثقافة والسياسة والإجتماع والإقتصاد والتعليم والتربية والكلام والهوية والأخلاق والتأثر والحب والصداقة والرغبة والإحساس والطبيعة. كل شيء يحتاج الى مزاولة مغايرة، لا علاقة لها بمزوالته الماضية، التي أدت، بفعل طمره وحرقه وإنكاره وكبته، الى عوداته العنيفة والركون الى العجز عن تصريفه.

البلاد ليست في أزمة، بل هي الأزمة، والحراك الذي تشهده ليس نتيجتها، بل انه هو الأزمة ايضاً. بالتالي، البحث عبرهما وفيهما يشترط توسيع المنظار الإيكولوجي ليصير، وفي الاستناد الى فيليكس غواتاري، منظاراً "ايكوزوفياً"، إيكو-فلسفي ثلاثي، يتناول علاقة المرء بالبيئة وفي علاقات الإجتماع وفي بنائه الذاتي. في هذا السياق، تندرج لافتة "الحبوب والأقراص" لتكون بمثابة أول القول على عتبة الرفض، وموضوعه طريقة العيش بالتراضي مع الضغط، وفي الرضوخ لإنتاجه لنا كذوات مضطربة وهلعة. وبالتالي، لاجئة الى أمكنة طاردة لحيواتها، ومصنعة لها لكي تندمج في الأزمة، وتتعاطى معها في حصرها وحبسها وحجرها على طريقة الدولة لما تبني الجدران حول نطاقها.

تطرح لافتة "الحبوب والأقراص" سؤالاً عن المُعاش، وعن الذات التي تولدها علاقاته مع بنائها المشاعري والنزوعي، ومع آخريها. إذ أنها محكومة بآليات مضرة لها، تحولها إلى مسكن معتم، لا إدراك له، أو مجال ثابت، لا مبارحة منه. ذلك، أنها تُصنع في مؤسسات مجتمعية تسجينية أو شبه تسجينية، وعلى أساس معايير وقوانين رديئة، مثلما أنها مع انتقالها من مكانها الأولي، أي العائلي، تكرره في خارجه، ما يجعله مركزاً موجوداً في كل مكان.

صناعة الذات على هذا النحو يضمر المأزق فيها، حيث أنه لما يظهر عليها، تعلق به، ولا تجد مهرباً من الركون إلى ملجأ هوياتي أو إجتماعي أو إلى سلوك مطمري، خوفاً من مواجهته، أو التفكير فيه على وقع عنفه. فـ"الأقراص والحبوب" من الوسائل التي تستعين تلك الذات بها كي لا تنكسر، وكي لا يتحطم صاحبها بسبب عدم احتماله العلاقات والروابط المتشابهة بقساوتها أينما حلت.

تقتضي الايكوزوفيا، الربط الإطيقو-سياسي، بين البناء الذاتي والإجتماع والبيئة، أي سحب الممارسة الإيكولوجية على كل المساكن، التي يأهلها المرء، ويعاني فيها من الركود أو من الإنتقال التماثلي إلى غيرها. وهذا ما يؤدي إلى تعريف المسكن، في معانيه العمرانية والإجتماعية والنفسية، بطريقة مختلفة، إذ أنه ليس المكان الذي يجري المكوث والإستنقاع فيه، بل الذي يسمح في مغادرته من أجل الإنتقال إلى آخر لا يتشابه معه، أي من أجل الأخذ بحياة متحركة وغير متمركزة ولا حاجة إلى الفرار السلبي منها.

البلاد هي الأزمة، لذا، تتطلب عمليات إيكوزوفية، وليس عملاً إيكولوجياً فقط.