في مصر.. بين فترتين

جوزيف الحاج
الثلاثاء   2014/04/15
 جاءت البلجيكية بيكي دوبورتير (Bieke Depoorter) إلى مصر لتغطية الثورة، منتدَبة من "ماغنوم" الوكالة التي تعمل فيها. لكن فكرة أخرى كانت تدور في رأسها: أن تبيت الليل في منزل عائلة مصرية،  تاركة للصدف وحدها تدبير ذلك. تجنّبت الفنادق الفخمة التي اعتاد عليها مصوّرو الوكالات، لا لشيء، سوى معايشة حميمية الناس.
 
بدأت تصوير عملها هذا "بين فترتين" في ضواحي القاهرة قبل ثلاث سنوات، وصولاً حتى أقصى الجنوب، ومناطق أخرى مثل الفيّوم وأريافها، ثم المنيا.
 
كان العنف أحياناً يبلغ ذروته. وسط هذه الحالة فضّلت تجاوز هذا الواقع الشبيه بحرب أهلية، والذي تحوّل، بعد صور الميادين والساحات، المرادف الأوحد لمصر. اختارت منهجاً بسيطاً خلاّقاً: النوم تحت سقف واحد مع من تصوّرهم، مستغلّة عتمة الليل، والعالم المغلق الذي يحاصر تلك المنازل، لتدخل كاميرتها إلى قلب الخصوصي والحميم.
 
لم يكن من السهل عليها كسب ثقة مضيفيها: "كان هناك دائماً جيران يشكّون في مصداقيتي ويتهمونني بالتجسّس، فتصل الأمور إلى حدّ تهديدي واستدعاء الشرطة إذا لم أغادر المنزل. كان الأمر مهمّاً بنظري، طالما وجدتُ كل يوم من يستقبلني برحابة صدر فاتحاً لي أبواب بيته وسط جنون عنصري متصاعد".
 
قبل مصر، صوّرت، كعادتها بين تحقيق وآخر، عائلات في روسيا لا تجيد التحدّث بلغتهم، طلبت من صديق أن يكتب لها على ورقة النصّ التالي: "أنا أبحث عن مكان أبيت فيه الليل، فهل تعرفون أناساً يمكنهم تأمين سرير أو أريكة؟ لا أريد شيئاً مميزاً فلديّ كيس للنوم. أنا لا أفضّل النوم في الفنادق، لأنني لا أحمل المال الكافي، ولأنني أرغب في رؤية طريقة حياة الناس. هل يمكنني البقاء بضيافتكم؟". حملت هذه اليافطة الصغيرة بيد، والكاميرا باليد الأخرى واستقلّت القطار الحديدي المتوجّه شرقاً نحو سيبيريا، والذي يربط بين مناطق شاسعة تمتد من موسكو وصولاً حتى اليابان. أصبحت السكة الحديدية مدخلاً لها إلى المدن الصغيرة وعائلاتها، وإلى العلاقة بين المصوّر ومواضيعه البشرية.

 
لمدّة شهر كامل، راحت تبحث عمّن يستقبلها. في أحيان كثيرة كان النهار يمضي دون أن تجد مكاناً لقضاء الليل، لكنها لم تيأس. أدركت أن من ينظر إلى عينيها، لا إلى آلة التصوير المعلّقة في عنقها، سيتأكد من مصداقيتها. "لحظة تلتقي العيون تبدأ صداقة جديدة. لم يكن بإمكاننا التحدّث مع بعضنا، لكننا كنا نتواصل بطرق أخرى. من المستغرب أن يتمّ هذا التقارب بسرعة، فلا أعود غريبة بنظرهم"، قالت. بمجرّد دعوتها للبقاء تصبح عضواً من العائلة، فتُظهر صورها، من دون حواجز، أناساً يعرفون أنهم لن يلتقوا بها ثانية.   لملامسة هذه العلاقة الحميمية. آثرت دوبورتير خيارات تقنية، منها الحساسية العالية ورفض استعمال الفلاش الإلكتروني، ما حرم الصور من وضوح التفاصيل والضوء الكافي.

 
ليال عديدة نامت فيها على أسرّة الصغار أو على الأرض مع أطفال تحت غطاء واحد اتقاءً للبرد. في صباح اليوم التالي تلتقط صورة للفراش الذي أوت إليه، قبل أن تنطلق بحثاً عن عائلة أخرى. "ليست القصة توثيق طريقة عيش الناس، إنما حميمية أفراد العائلة، والتقاط خصوصية اللحظة، كونهم يعيشون معاً في منازل متواضعة. أيضاً، أركّز على علاقتي بهم. نبدأ بالتعلق بهم، ثم يصعب علينا الافتراق عنهم. إن ليلة واحدة ليست بالشيء الكثير، لكنها كافية إذا قضيتها مع إحدى العائلات".  
 
دوبورتير من مواليد 1986، نالت الماجستير في الفوتوغرافيا من "المعهد الملكي للفنون". حصلت على جوائز عديدة، منها جائزة "ماغنوم"، عن عملها هذا "بين فترتين".