أشياء ماركيز تحطّ في تكساس

حسن داوود
الثلاثاء   2014/11/25
الصورة: ممثّل في دور "الجنرال" خلال جلسة عامة لقراءة "ليس للجنرال من يُكاتبه" (غيتي)
لا نعرف إن كان غبريال غارسيا ماركيز قد أوصى بأن تتصرّف عائلته بأرشيفه الشخصي. لم يُذكر شيء عن ذلك في المقال الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" عن الصفقة التي آلت بموجبها كلّ متعلّقات الكاتب الكولومبي إلى جامعة تكساس. كلّ ما أبقاه ماركيز، مما له علاقة بأدبه وصداقاته ومراسلاته وصوره وأدواته الشخصية، وبينها آلتي طباعة (دكتيلو) ماركة سميث كورونا وخمسة أجهزة كومبيوتر (آبل)، كلّ ذلك استقّر في مركز هاري رانسوم التابع للجامعة، جنباً إلى جنب مع الأرشيفات الشخصية لكتّاب مثل جيمس جويس وأرنست همنغواي ووليم فولكنر وخورخي لوي بورخيس وغيرهم.

ربما يقول متابعو سيرة الكاتب ومؤيّدو مواقفه السياسية، أنّ ما ينبغي الإحتجاج عليه هو أن تنقل تلك "البقايا" إلى الولايات المتحدة التي كان يناصب سياستها العداء. كان ممنوعاً عليه دخولها (حتى العام 1995 حين ألغى بيل كلينتون ذلك الحظر)، بسبب مواقفه المناصرة للحزب الشيوعي الكولومبي في الخمسينات، وكذلك، ربما، لصداقته مع فيديل كاسترو الذي ستكون الصور التي تجمعه به مشمولة ببيعة الأرشيف.

ما أحسبه أكثر مدعاة للتساؤل هو مخالفة الصفقة لحرص الكاتب على ألا تظهر أعماله الأدبية إلا تامّة منجزة. رودريغو غارسيا، أحد نجليه، قال إنّ أباه كان مهجوساً بكمالية النصّ ولم يكن يحبّ أن يتسرّب شيء منه قبل تمامه. هو نفسه، الكاتب غارسيا ماركيز، قال، العام 1983 لمجلة "بلاي بوي"، أنه لا يرغب في أن يقتفي الدارسون مسار كتابته، فذلك يشبه، بحسبه، أن يُضبط وهو في ثيابه التحتانية.

لكن رغم ذلك سيكون الأرشيف المعمّم مادّة لدراسة أعمال الكاتب، حتى التشريح التفصيلي. ذاك أنّه، هناك في الجامعة التي تحتوي على أكبر أرشيف أدبي في الولايات المتحدة، سيعمل باحثون كثر، بدءا من لحظة السماح لهم بذلك، على كشف ما كان يحرص الكاتب على إخفائه. "بات يمكن لنا أن نلاحظ المكامن الرخوة، والمقاطع المحذوفة، والكلمات التي جرى استبدالها.. حتى أننا بتنا نستطيع أن نتعرّف على صراعه الفكري والأدبي فيما كان يخطّ إبداعه"، قال جوزيه مونتيلونغو المختصّ في أدب أميركا اللاتينية في تلك الجامعة، والذي رافق أحد مسؤولي الجامعة إلى بيت ماركيز من أجل تقييم، أو "تسعير"، محتويات الأرشيف قبل شرائه.

"كلّ ما عشته وما فكّرت فيه موجود في كتبي"، كان يقول ماركيز. وهو، إلى ذلك، لم يكتف بدلالة رواياته وقصصه على جوانب من حياته وفكره، بل إنّه كتب ذلك بنحو أكثر وضوحا في كتاب يومياته (وقد صدر بالعربية في جزءين). لكنه، حتى في ذلك الكتاب، كان يروي حياته بحسب ما يحبّ أن تُروى، حاذفاً منها ما لا يرغب في البوح به، أو مغيّراً أسباب الحوادث ومبدّلا سياقاتها. ولنضف إلى ذلك أن لا إمكان أبداً لكشف الحياة كما هي، في أيّ من اليوميات التي كتبها كتّاب عن أنفسهم. ونحن، قرّاء اليوميات والمذكّرات، نجد أنّ شجاعة قليلة يُظهرها الكاتب تكفينا لنقول أنّه تجاوز حدّ التحفظ الذي التزمه سابقوه.

لن يكون ماركيز حاضراً، هناك في جامعة تكساس، حتى يضع حداً بين ما هو مسموح البحث فيه وما هو ممنوع. منذ الآن بات سعيه إلى الكمال هو موضوع عمل الباحثين، أو موضوع كشف استحالته. المخطوطة الأولى من "مئة عام من العزلة"، وهي بين مواد الأرشيف، ستظهر الطريق التي سلكها للوصول إلى ما اعتبره كاتبها إنجازاً تاماً، وذلك من التصحيحات والإستبدالات ووضع كلمة بدل أخرى. كلّ ذلك يشير إلى مدى حضور الصنعة في ما نسميه الإبداع، أو الخلق.

على أيّ حال ليس ماركيز الأوّل في تلك المحنة، فقد سبقه إليها كلّ من استحقوا أن يكونوا كتّاب العالم الكبار.