المخرج رشيد بوشارب: قضيتي في فرنسا وليست في الجزائر!

حاوره: هوفيك حبشيان
الخميس   2014/11/20
"في أميركا، تعلمتُ أن الممثلين دائماً في خدمة الفيلم، مهما علا شأنهم"
أفلام المخرج الجزائري الفرنسي، رشيد بوشارب، لا تترك أحداً في وضعية اللامبالي. فهو من صنف السينمائيين الذين يحاولون إحداث ثقب في جدار المسلّمات. معظم أعماله التي بدأ ينجزها منذ العام 1985، سعى الى هزّ المشاعر وقلب الطاولة: "بلديون" (2006) دفع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الى اعادة النظر في أحوال قدامى المحاربين الأفارقة، بعدما كانت الدولة جمّدت رواتبهم طوال سنوات. "خارجون عن القانون" كاد يحدث فتنة في فرنسا وأدى عرضه في مهرجان "كانّ" 2010 إلى اقفال الطرق. وفي "نهر لندن"، قال كلمته في الإسلام المعتدل. والآن، في "رجلان في المدينة" (عُرض في مسابقة مهرجان برلين هذا العام)، يواصل بوشارب طرح أسئلته الاعتيادية، تتقدمها إشكالية الهجرة والحدود الخاصة بسينماه، من خلال سجين سابق يعتنق الإسلام.
في مهرجان أبوظبي الثامن، الذي كرّمه لمجمل أعماله، كان لـ"المدن" معه هذا الحوار...  

- جديدك، "رجلان في المدينة"، نسخة ثانية لفيلم فرنسي شهير أخرجه جوزيه جيوفانّي العام 1973. ما الذي دفعك الى انجازه؟

* رغبتي نابعة من إعادة اكتشاف فيلم قديم طواه الزمن. آنذاك، عومل الفيلم بشيء من الازدراء. أتحدث عن النخبة تحديداً. عندما نشاهده اليوم، نرى كم هم عظماء أولئك الذين مثّلوا فيه. سواء ميشال بوكيه، آلان دولون، أو جان غابان.

- لكن جان غابان لم يكن يوماً ممثلاً هامشياً. انه أكبر ممثل فرنسي وأشهرهم على الاطلاق. فماذا تعني باعادة اكتشافه؟

* لم يكن هامشياً، لكني أتذكر المرحلة الأخيرة من عمره، عندما كان النقاد ينبذونه. هكذا هي الحال في فرنسا دائماً، يكتشفون قيمة الأشياء بعد فوات الأوان.

- غيّرت الكثير في تفاصيل الحبكة الدارمية، كي تصبح نسختك صالحة لإدراجها في الثلاثية التي تنجزها. ما الذي غيّرته تحديداً؟

* في البداية، أردت خوض غمار الفيلم البوليسي. لكن لم تكن في متناولي قصة. الروايات البوليسية لم تكن شغلي الشاغل. لم أقرأ العديد منها. طالعتُ ما كتبه طوني هيرلمان. بالاضافة الى بعض الروائيين الأميركيين السود الذين كانوا ينشرون في الخمسينات، وأبرزهم تشاستر هايمز. لطالما اهتممتُ بالروائيين الذين كانوا على صلة قوية بالأفارقة الأميركيين. أضف أني كنت لا أزال غارقاً في سحر "رجلان في المدينة"، بعد مرور سنوات على مشاهدتي له. فقلت في سري: لمَ لا؟ عندما باشرتُ الاقتباس، شعرتُ أن العناصر التي في حوزتي ليست كافية. نقل الحوادث الى أميركا، وحده، لم يكن حجة متينة. كان ينبغي أن أضيف اليه الهواجس والتيمات التي نجدها في أفلامي، ومنها بشكل أساسي الهجرة. خلال رحلة سابقة لي الى أميركا، لفتتني الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة. يبدو أن هذا الموضوع تسرب الى وجداني، وظهر فجأة خلال عملية التأليف. الممثلون الذين اخترتهم اضطلعوا أيضاً بدور أساسي في جعل الفيلم يخرج عن الدروب المطروقة. مثلاً، لم أكن أريد معادلاً أميركياً لآلان دولون. فجأة، حضر الى ذهني فوريست ويتكر، الذي كنت التقيته قبل سنوات. أثارتني فكرة أن يكون أميركياً من أصول أفريقية. كان يهمني أن أرى شخصيته تعتنق الاسلام.

- بصراحة، لم نفهم مسألة اعتناقه الإسلام، خصوصاً أنك لم تتعمق فيها. ما المقصود من ذلك؟

* لم أرِد بلورة هذا الجانب من القصة. حرصتُ على عدم الذهاب في ذلك الاتجاه. انطلقتُ من حجة مفادها "لمَ لا؟". لمَ لا يكون فوريست مهاجراً غير شرعي؟ ولمَ لا يكون افريقي الأصل؟ ولماذا يبحث عن علاج للعنف الذي يسكنه؟ وتالياً: ما المشكلة في أن يعتنق الإسلام؟ خصوصاً ان هذه الظاهرة منتشرة بقوة داخل السجون الأميركية، لا سيما في السجون ذات الغالبية من السود، ومن القوى الفاعلة في هذا المجال هي "أمّة الاسلام" التي حمل لواءها اليجا محمد. صحيح أن تيمة الإسلام دخلت القصة، لكني أرِدها موضوعاً أساسياً في الفيلم.

- .. مع أنك تطرقتَ الى قضية الإسلام في فيلمك "نهر لندن"، وانت مضطلع بهذا الملف...

* "نهر لندن" كان عن رجل نراه يصلي في غرفة الفندق. هو الآخر افريقي الأصل. لكن الأمر ينتهي عند هذا الحدّ.

- كأني فهمتُ منك أن كلّ شيء في سينماك يحدث بالمصادفة المحض...

* يهمني إدخال هذا العنصر، أقصد الشيء الذي يحدث بلا مبررات درامية، لكن ليس دائماً. حتى اذا كان صحيحاً انه قد تجد الكثير من هذه المشاهد في أفلامي. في "السينيغال الصغير" مثلاً. أو ذلك المشهد في "بلديون" حيث الجنود يفترشون الأرض للصلاة. أعتبرها جزءاً من السياق أو السرد.

- أليس هذا موقفاً يأتي من لاوعيك مما يحصل الآن في العالم؟

* لا أعتقد. (بعد تفكير)... أو ربما. العنف قائم في الفيلم. ناقشت كثيراً مع فوريست ويتكر: كان يؤمن فعلاً بأن راحة بال الشخصية التي يجسدها، ستأتي من اعتناقها الإسلام. كان يمكن للفيلم أن يستند فقط الى هذه النقطة، لكني رفضتُ أن أحصرها في هذا الاطار. لا أعرف ما هو رأي المُشاهد في هذه الطريقة. هل يعتقد بعضهم أن المسوغات لاعتناقه الإسلام غير كافية؟ بصراحة، لا أعرف. أنا من جانبي، أحبّ أن أستمتع بالحرية المعطاة لي لأبني الفيلم الذي أريده. هكذا عملتُ دائماً، سواء في "نهر لندن" أو "السينيغال الصغير" أو "بلديون". التدين في أفلامي عامل ثقافي وفلسفي وشكلي. لا أعرف كيف سيتعاطى الجمهور مع رؤيتي لـ"رجلان في المدينة". في أميركا، 10 ملايين مسلم. هذا الأمر قد يزعج بعضهم، لكني لا أستطيع أن أفعل أي شيء حياله.

- ماذا عن ثلاثيتك؟ ما هو الموضوع المشترك بين الأفلام الثلاثة التي أنجزت منها اثنين حتى الآن؟

* "رجلان في المدينة" الفيلم الثاني في الثلاثية. الأول، "كامرأة"، أخرجته للتلفزيون، لكنه صدر في صالات ايطاليا واسبانيا والولايات المتحدة. إنها حكاية سيدتين تقومان برحلة من شيكاغو الى اريزونا. في الحقيقة، ليس هناك ما يربط الأفلام ببعضها البعض. الرابط بينها قد يأتي في مرحلة لاحقة. كل ما أعرفه هو أني أريد أن أنجز ثلاثة أفلام في الولايات المتحدة وعنها، ديكورها أميركا ومواضيعها مستقاة من قلب اهتماماتي. سأبدأ تصوير الفيلم الثالث بعد سنة ونصف السنة تقريباً.

- هل ثمة اختلاف كبير في التصوير بين أميركا وفرنسا؟

* في أميركا، تعلمتُ أن الممثلين دائماً في خدمة الفيلم، مهما علا شأنهم. عندما يقبل الممثل أن يشارك في فيلمك أو أن يكون بطله، لن يتراجع. وإلا فإنه لا يقبل الدور منذ البداية. لم أواجه أي مشكلة في التعاطي مع أشخاص مثل هارفي كايتل وفوريست ويتكر. كنت أعتقد ان العمل معهما سيكون صعباً، لكني فوجئت عندما رأيتهما يشعران بالخوف في اللحظة التي يبدأ فيها محرك الكاميرا بالدوران. كان كايتل يسألني دائماً: "هل ما أقوم به جيد يا رشيد؟". أما فوريست، فأكد لي غير مرة انه يضع نفسه في تصرفي. رأيته يشتغل كثيراً، يطالع القرآن، ويتعلم العربية والصلاة. تعلم كيف يصلي وصار أفضل مني في الصلاة (علماً بأني لا أصلّي). تحضيره للدور استمر أربعة أشهر. رأيتهما في حال قلق مستمرة. طوال مسيرتي، لم أرَ ممثلاً فرنسياً يخاف على هذا النحو. الفرنسيون يملكون ثقة عالية بأنفسهم.

- ماذا عنك أنت؟ ألم تكن خائفاً من إنجاز فيلم في بيئة لا تعرفها جيداً ولا تتماهى مع تفاصيلها ومكوناتها؟

* دعني أرّد بالقول إن المشكلات في السينما هي هي، أينما حللت. سواء كنتَ في أميركا أم مجاهل أفريقيا، فستواجه الصعوبات عينها. في النهاية، أنت القائد الأعلى لجيش من التقنيين. الشيء الوحيد الذي كنت أجهله حينما بدأت بالعمل في أميركا، هو الـ"ستار سيستام" الهوليوودي. هذه هي المرة الأولى التي أعمل فيها مع نجوم أميركيين. وهذا يترتب عليه خدم وحشم وأسطول من المساعدين قد يصل عددهم الى 250 شخص.

- هل ستكون صعبة عليك العودة الى فرنسا؟

* لا، سأصوّر فيها قريباً. لا تنسَ ان فيلمي الأول صوّرته في الولايات المتحدة بإنتاج فرنسي. ثم عدتُ لأصوّر فيها فيلمين. ثم صورتُ في لندن والجزائر، حتى أني قصدتُ آسيا وأنجزتُ فيها فيلماً عن فيتنام ما بعد الحرب. في مسيرتي، تعددت الأماكن التي صوّرتها والموضوعات التي عالجتها.

- ألا تفكر في إنجاز فيلم عن الواقع الراهن في الجزائر؟ أليس فيها ما يثير فضولك أو غضبك؟

* صورتُ للتو وثائقياً فيها. في الجزائر، هناك الكثير مما يستحق أن يُروى. لكن دعني أوضح شيئاً: على الجزائريين أنفسهم، الذين يعيشون في الجزائر بشكل يومي، أن يصوروا أفلاماً عن الجزائر يعبّرون فيها عن غضبهم. أنا ولدتُ في باريس (مع أني عشتُ في ضواحيها)، ودائماً تنقلتُ للعيش من مكان الى آخر. طوال عمري، لم أرَ من الجزائر الا الرحلة الصيفية مع عائلتي. هذا لا يعني أن هموم المجتمع الجزائري لا تمسّني في الصميم. فما عشته خلال الطفولة ترك فيّ أثراً عميقاً. في المقابل، لديّ الكثير لأقوله عن المجتمع الفرنسي، لأن صلتي به تاريخية وعمودية أكثر. قضيتي هنا. أفهم الجزائريين، لكني لا أشاركهم واقعهم اليومي. الجزائريون المقيمون في الجزائر يعرفون أفضل مني ما يجب أن يُقال في واقعهم.