ملك آيسلندي وحيد

مازن معروف
الجمعة   2013/06/21
 ظلت باريس تهيم كشبح في قصائد الشاعر الآيسلندي الأبرز سيغور باولسُنّْ منذ ثورة 1968. لملمها كملاحظات يومية، سريعة وبطيئة، وجمعها لاحقاً في كتابه "مفكّرة" الذي نال عليه جائزة الشمال المرموقة (2008). جاءت مدينة متعددة الصور، مليئة بالأحداث والتحولات، التفاصيل والحيوات الصغيرة والذكريات. إنها باريس أواخر الستينات، السبعينات، وأوائل الثمانينات. ملاذ الغريب الآيسلندي لخمس عشرة سنة. مملكة كانت تتمدد كل يوم، نهل باولسن من صورتها، ومن ماء ثقافتها وشعرها، ليصبح فيها ملكاً من آيسلندا، أنيقاً متمهلاً، عابراً إليها كل يوم من أقاصي شمال الكوكب. 

كان باولسن (مواليد 1948) قد قدم إلى باريس قبل عام من اندلاع ثورتها الطلابية لإكمال دراسته. حمل حقائبه من ركيافيك العاصمة بتعداد سكانها القليل، ومعه في الذاكرة ما تركته خمس عشرة سنة من العيش في شمال شرق آيسلندا البارد والأكثر عزلة. استمع في باريس إلى الزعيم الطلابي الثائر، زميله الجامعي الألماني دانييل كوهن بِنديت. ومعه اتخذت المدينة شكلاً متحولاً. كان لا يزال فتى، وكانت مدينة مسحورة، شعوذة وحلماً، خبزاً وأغنية عاطفية ساخرة، وموطناً لشعراء وفنانين متعطشين، تؤرقهم اللغة والصورة، الشكل اللغوي والكيفية. درس فيها المسرح والسينما. وتشرب جهاتها. لم تكن آيسلندا قد شهدت حتى ذلك الحين، أي حركة سياسية كبيرة، فالجزيرة نالت استقلالها عام 1944 بالنضال الفكري، لا الاحتجاجي في الشارع. 
 
كان من الطبيعي أن يكون لباريس، بعداً شخصياً، إنسانياً يضاف إلى حراكها السياسي أو الثقافي. دم لا يصدأ في مخيلة باولسن الشاب. وإلى الآن، فإن هذه المدينة الجميلة والقاسية، تنشط باستمرار داخل الشاعر، وإذا ما قابلت سيغور في كافيه إيمندسون في ركيافيك، فإنه سيحدثك عنها بحماسة كبيرة، ويفسرها لك. العام الفائت، اختارته دار "غاليمار"، كواحد ضمن أكبر خمسة شعراء من الشمال. "خمسة شعراء من أقصى الشمال- Cinq poètes du Grand Nord"، أنطولوجيا ضمت قصائد لتوماس ترانسترومر (السويد)، إنغر كريستنسن (الدانمارك)، يان إريك فولد (النرويج)، بنتي هولابّا (فنلندا) وسيغور باولسن (آيسلندا). واليوم تنشر له دار أزمنة "ملوك آيسلاندا الوحيدون"، مجموعة شعرية باللغتين الآيسلندية والعربية ضمت قصائد مختارة ترجمها عن الانكليزية حازم قديسات. ينظر الشعراء الآيسلنديون إلى باولسن كواحد ممن مدّوا اللغة الشعرية الآيسلندية بميزات جديدة. لكن الترجمة العربية طبعاً لا تستطيع إظهار هذا الأمر، نظراً لخصوصية اللغة الآيسلندية قبل أي شيء آخر.  
 
كلام قصيدته عموماً، قليل. وجملته الشعرية سواء كانت سردية أم لا، فإنها مشغولة لتبيِّن أن هناك حركة ومسافة متغيِّرة، وبالتالي نوعاً من الحوار المضمر بين صوت الشاعر وأصوات العناصر المحيطة به. تتحول بعض قصائده إلى مونولوجات، متوحدة، لشدة الوحشة التي تكتنفها. لذلك، فإن باولسن، يبدو كمن يقف على خشبة مسرح، وحيداً، لكن مضاء جيداً بحيث ينظر الجميع إليه. نحن في عالمه الشعري، أكثر من متفرجين حكماً، نصِلُ، لكننا لا نقوى على التدخّل. رغم أن باولسن يفتح لنا كل الأبواب، إلا أن التفاعل مع قصيدته سيكون محكوماً بقوة السلطة الموجودة داخل القصيدة عينها. فنصوصه بقدر ما تكثف نفسها وتقلّص العالم، فإنها تنضوي على علاقات بين الإنسان ومحيطه البيئي والكوزمولوجي، تستفز المخيلة، وتبقيه في سلَّمٍ من الاحتمالات. تنتهي القصائد غالباً ممسكة بالقارئ، بأصابع خفية، فالصور المتتالية تنتصب كفخاخ. توحي للوهلة الأولى، بسبب تقطيع الجملة وبطء الإيقاع، بالسهولة، وتنتهي دون إرهاق القارئ. لكننا سنكتشف أن قصائده تدعونا لقراءتها. شعره يشبه منازلة متكررة، لا تنتهي حكماً لصالح أحد، ما عدا الشاعر نفسه. عباراته القصيرة، تمثل القطبة اللينة، لبناء الانتقالات بين الصور، والمونولوجات الشعرية التي يلفظها في حوار مع عالمه الصامت. 
 
غير أن هذا الاصطفاف للمحيط في قصيدته، سواء كان هذا المحيط امرأة، جبلاً، بيتاً، قطرة ماء، أم نظاماً شمسياً، لا بد أن ينتهي مرتباً بطريقة أخرى. الصورة الأولى ستستدعي صوراً أبعد، وبالتالي تدخلات مرجعها الذاكرة البصرية أو المجازية. 
المسافة، بمعناها الجغرافي ثم المجازي، هي إحدى ركائز القصيدة لدى باولسن. والشاعر الشغوف بهذه المسافة، وغير المتنازل عن حسّه الساخر لكن الرصين في نفس الوقت، يجتهد بها ليكسر كل توقّع ممكن في نصّه. تعديل هذه المسافة، وقراءة النظم الإنسانية والمادية من خلالها يجعله محاولاً على الدوام أن يفككها، يخلصها من طرائدها، ويملأها بعناصر جديدة. وكأنها مسافة/ إطار مشيد قبل كتابة القصيدة. وسيط ضروري لكل تيمات النص المتنافرة، والمتغيرة في مواقعها. تيمات يتم وضعها في سياق لغوي، حوار/ نشاط/ مصير شعري وصوري. وهو ما يولِّد نوعاً من الحركة الخفية ضمن سياق القصيدة، ويدب الحياة في الأشياء الموجودة في نطاق حاد.