العراق ودروس رحلة سريعة

صبا مدور
الإثنين   2022/09/05
© Getty
الحلول الوسط صعبة على العراقيين، هذا ما خلصت إليه حينما زرت بغداد في نيسان/أبريل عام 2018 في مهمة صحافية، لم أكتفِ حينها بمهمتي الأساسية بإجراء مقابلة مع رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، بل خضت حوارات مع العديد من السياسيين والأكاديميين والصحافيين لمعرفة أحوال العراق بعد شهور فقط من إعلانه القضاء على داعش، وقبل إجراء الانتخابات العامة في ذلك العام، وأكثر من ذلك، فقد طلبت مقابلة عدد من أفراد وقادة التنظيم المعتقلين لدى الحكومة العراقية، وتحقق لي ذلك بالفعل، وعرفت منهم معلومات مهمة عززت قناعتي بأن المتورطين كثُر وما زالوا خارج القضبان.
كانت زيارتي قصيرة، لكنها كانت سريعة الخلاصات، وجدت أن العراقيين الفخورين بالانتصار على داعش، ما زالت تنقصهم القدرة على الاستفادة من ذلك النصر لإعادة تنظيم علاقاتهم الداخلية ورؤية مستقبلهم بعد تضحيات جسيمة وخسائر مؤلمة قدموها بسبب ذلك التنظيم أو لأسباب سبقت ظهوره، وتتعلق بالطبقة السياسية التي تدير ذلك البلد المهم، واستنزفت ثرواته الضخمة من دون أثر على الأرض يوحي بأي ملمح للتقدم والتنمية، فضلا عن اتهامات بانتهاكات خطيرة على أسس طائفية.
كانت بغداد تجبرك على احترام هيبتها، رغم أنها بدت متعبة وكل شئ فيها متهالك أو يكاد، ولم أجِد فيها ما يختلف كثيرا عن حلب قبل أن أغادرها، وربما كان هذا قدر المدن العريقة، أن تظل محتفظة بعمقها ونظرتها العالية لنفسها، حتى وإن مر بها إعصار من جوع أو غزو أو خوف.
لا يفوتني استذكار تلك الزيارة كلما صار العراق عنوانا في الأخبار، فليس من رأى كمن سمع، وكي تفهم العراقيين لا بد أن تستمع اليهم وأنت تحدق في عيونهم، ومنهم وحدهم تفهم حقيقة ذلك الصراع الظاهر أو المستتر أوالذي ينتظر، وغالبيتها أسباب صنعت بعناية، وجرى ترتيب عناصرها على مدى السنين قبل الغزو الأميركي وبعده.
من بين هذه الأسباب تحطيم جوهر الدولة المتمثل باحتكار العنف، ليتوزع النفوذ على أمراء حرب، جرى بناء أدوارهم وقوتهم ونفوذهم على عين إيران ونسجها، ليكونوا جزءا من مشروعها في المنطقة. هو نفس النهج الايراني في إنشاء دولة موازية من الميليشيات، على نموذج حزب الله في لبنان، لكن في العراق، كان متعذرا أن تقوم ميليشيا واحدة بهذا الدور فجرى بناء العشرات منها.
كان نجاح إيران في بناء نموذج أو نماذج متعددة لحزب الله في العراق، أمرا يدعو للتساؤل بالنسبة لي، فوجود الشيعة في هذا البلد لا يمكن أن يفسر لوحده مثل هذه النتيجة، لا سيما مع بلد اعتاد الحكم المركزي، ومع شعب معتد بنفسه، ومع أنماط من التشيع العربي الذي نشأ أساسا في العراق، تختلف عن التشيع الصفوي الأحدث والأكثر تطرفا وشعوبية وتسييسا. كان تساؤلي عن الظروف التي هيأت لإيران أن تبني نفوذها من خلال الانقسام الطائفي، وأن تستحوذ على قيادات شيعية دينية وسياسية تولت عنها مهمة بناء مشروعها في العراق.
ساعدتني حواراتي في العراق على سد فراغات كثيرة فشل الإعلام العربي في ملئها، ومن بين ذلك، أن النفاذ الإيراني إلى العراق، جرى أولا بسبب الأميركيين الذين قاموا بقصد أو بدونه بتمكين إيران، ومنح أذرعها، مواقع أمنية وسياسية وفرصا اقتصادية، جوهرية، وكان النظام السياسي الذي بُني على أساس تقسيم طائفي وعرقي، كافٍ لوحده لتفريخ طبقة سياسية نفعية وانتهازية ومرتهنة وسادية مع شعبها، تستسهل الفساد والقتل وموالاة الأجنبي، ونظموا بعد ذلك دستورا مليئا بالثغرات وصانعا للفوضى، واشتروا الذمم بأموال العراق ذاته، ليضعوا منذ ذلك الحين أسسا لمنظومة فساد ضخمة، توحدت لاحقا مع شبكة ميليشيات مسلحة فأصبح كل منهما يحفظ الآخر ويستند إليه، وبينهما ضاعت الدولة، وعناوينها، لتصبح المواجهات المسلحة التي وقعت في بغداد في 30 آب/أغسطس أمرا متوقعا ونتيجة تكررت من قبل وربما ستشتعل من جديد.
أدرك طبعا أن هناك مشكلات تفصيلية تتعلق بالعلاقة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي الشيعيين، بسبب الخلاف السياسي الجوهري بعد انتخابات تشرين أول/أكتوبر 2021، لكن، أساس الأزمة مركب ومعقد، يعرفه العراقيون، ويسعى بعضهم لتغييره، لكن شبكة منظومة الفساد والسلاح قد استفحلت حتى بات اقتلاعها أمر صعب، دونه مصالح كبرى داخلية وخارجية، بل أن مقتدى الصدر بكل قوته الشعبية، وبالغلبة البرلمانية التي حازها بعد الانتخابات وبرصيده السياسي والديني، لم يتمكن من تمرير مجرد (مشروع إصلاحي) فكيف بتغيير نظام بهذه الشراسة والامتدادات.
شخصيا، أتمنى للعراق أن يتعافى، وأن يتوقف مسلسل نزيف دم أبنائه، وأظن أن استقرار العراق، سيكون سببا مباشرا في استقرار المنطقة برمتها، لكني أعلم أن الاستقرار لن يتحقق بالامنيات، وأن الخلل الجسيم في منظومة الحكم كما وصفها الرئيس العراقي برهم صالح، سيظل عنصرمهددا لأي حل للمشكلات البنيوية بين أقطاب الحكم، كما أن النظام نفسه لن يكون لسوء الحظ قادر على إصلاح نفسه بأية طريقة تقليدية يمكن أن تخوضها دول تدعي ممارسة ديمقراطية ناشئة كما يقول الساسة العراقيون.
وكي لا تكون هناك أوهام حول ما يمكن أن يقود إلى مشروع حل، أو ضوء في نهاية النفق، فإن الأمر كما سمعته في العراق من مثقف مطلع كان قريبا من دوائر القرار والسلطة من غير أن يخوض فيها، يتطلب أولا أن يكون الحل عراقيا خالصا دون تدخل خارجي أيا كان مصدره، وهو ما يبدو صعبا حتى اللحظة، رغم أنه ليس مستحيلا.