منصة الأكاذيب الأممية

صبا مدور
الأحد   2022/10/02
© Getty
وقف فيصل المقداد على منصة الأمم المتحدة، متجاهلاً مقولة أبراهام لينكولن، فعاد ليمارس عادة نظامه بخداع كل الناس طوال الوقت، وتحدث أمام قاعة شبه فارغة، عن "الديمقراطية" في سوريا وعن المصالحة والوحدة الوطنية وتسهيل عودة اللاجئين، دون أن ينسى بالطبع، 21 مرسوما أصدرها رئيسه للعفو العام!
تحدث المقداد عن ال"يوتوبيا" في سوريا، ولوهلة يظن السامع أن وزير الأسد يصدق ما يقول، أو أنه ربما أراد أن يسير على درب غوبلز الذي كان يقول إن ترداد الكذبة مائة مرة يجعلها حقيقة تاريخية، فمضى في هذيان الأكاذيب، وأنهى كما بدأ، وكما كان متوقعاً من نظام يظن أن حاجة العالم لنكران عاره السوري، ربما تجعله بحاجة إلى هذا النمط من الخيال ليريح ضميره ويطوي الصفحة.
تساوى العالم مع نظام الأسد في غاية النكران، نكران الواقع، ورفض التعرض للتفاصيل المؤلمة والكئيبة، نكران مشاركة الجميع في عملية قتل السوريين وإذلالهم وخذلانهم، وهكذا فلما استخدم المقداد المنصة الأممية لإطلاق الأكاذيب الغبية، أكتفى الآخرون بالغياب، فلا يسمعون ولا يعلقون ولا يحرجون أنفسهم بحقيقة الفشل، فسوريا ليست على الأجندة، ويكفيهم غرباً وشرقاً، معضلات الطاقة والحرب النووية المحتملة والمصالح المتقاطعة والمتناقضة بين هذا وذاك، ولا داعي للتفكير بوجع السوريين، فهم اعتادوا ذلك على كل حال، وللمرء أو الشعوب أن تتكيف مع وجعها، ما دام علاجه خارج الأولويات أو ربما كان عند البعض من بينها، من يدري؟
في حديثه عن "كرم"نظامه تحدث المقداد عن المصالحة وتسهيل عودة اللاجئين، كأنه يتحدث عن جزر معزولة لا يراها أحد، أو كأنه يظن ان لا أحد سمع بالتقارير الدولية الموثقة عن جرائم القتل والاغتصاب والإخفاء القسري التي تعرض لها لاجئون سوريون عادوا لبلادهم لا سيما من الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان. وحسب تقرير لمنظمة (هيومن رايتس ووتش) صدر في تشرين الأول/أكتوبر 2021، فإن اللاجئين العائدين للفترة من 2017-2021 واجهوا "الكثير من الانتهاكات نفسها التي دفعتهم إلى الفرار من سوريا، ومنها الاضطهاد والاعتداءات، مثل الاعتقال التعسفي، والاحتجاز غير القانوني، والتعذيب، والقتل خارج نطاق القضاء، والاختطاف، وتفشي الرشوة والابتزاز على يد أجهزة الأمن السورية والميليشيات التابعة للحكومة. يبحث التقرير أيضاً في الممارسات التي تُسمى "التدقيق الأمني" و"اتفاقات المصالحة" -التي كثيرا ما تستخدمها الحكومة السورية للتدقيق في شؤون العائدين والأشخاص الذين يعبرون نقاط التفتيش في سوريا- ويبيّن كيف أن هاتين العمليتين لا تحميان الأفراد من استهداف أجهزة الأمن الحكومية. كما ينظر التقرير في انتهاكات حقوق الملكية وغيرها من الصعوبات الاقتصادية التي جعلت العودة الدائمة مستحيلة بالنسبة للكثيري.
وفي تقرير لها بعنوان "أنت ذاهب إلى الموت"، في أيلول/سبتمبر 2021، تقدم منظمة العفو الدولية تفاصيل أكثر لهذه الانتهاكات التي اتهمت ضباط مخابرات النظام بارتكابها، وتمكنت من توثيق تعرض 66 لاجئاً عائداً من بينهم 13 طفلاً لأشكال مختلفة من الجرائم، حيث احتجزوا وتعرضوا للتعذيب وتوفي 5 منهم في المعتقل بعد عودتهم، إلى جانب 14 حالة من العنف الجنسي منها 7 حالات اغتصاب بحق 5 نساء ومراهق وطفلة في الخامسة من عمرها.
بالطبع، سينكر وزير الأسد ذلك، فهو أمر لا يحدث في "سوريا المفيدة" التي ينظّر لها رئيسه، وأولئك الذي قتلوا أو اعتقلوا أو تعرضوا للاغتصاب والابتزاز والمهانة، من اللاجئين العائدين، أولئك ليسوا من بين "السوريين النافعين"، وستكفيهم العودة، دون حقوق أو مزايا، وهم بعدها ملك للزعيم وزبانيته يفعلون بهم ما يشاؤون.
ويتحدث الوزير عن العفو الرئاسي، ضمن إنجازات نظامه، لكنه لم يذكر للعالم شيئاً عن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين الذين فُقد أثرهم، فلا هم مع المفرج عنهم ولا هم في السجون، وكان يكفيه لو أنه ألقى نظرة على الأهالي المتجمعين تحت جسر الرئيس في دمشق بانتظار أبنائهم، ليدرك أي لوعة وقهر تركه نظامه في قلوب السوريين وهم ينتظرون أملاً لن يعود، ربما لأن أحباءهم، كانوا هناك ضمن القتلى الذي وثقتهم صور قيصر، وقد أخفى النظام جثثهم، وأبقى ذويهم في حرقة الانتظار.
هل اطلع المقداد على صور قيصر؟ نعم بالتأكيد قد فعل، لكن، هل ننتظر إلاّ أو ذمة من أركان نظام يعتبرون كل ضحية عدواً، ولا يهم بعد ذلك ماذا فعل ليستحق التغييب والقتل، أو إن كان قد فعل شيء أصلاً، ولماذا نلوم الوزير الأسدي، فهل فعل العالم ما يزيد عن عقوبات اقتصادية، لم تصب غير الناس العاديين، فيما ظلّ النظام يرتكز على طول الأمد، وجزع العالم، وتقلب الأحوال والمصالح، ليظل حراً رغم أنه خارج القانون وكل نواميس البشر.
وتحدث المقداد عن أستانة، واللجنة الدستورية، بل وتحدث عن الديمقراطية والانتخابات، وزاد وأطال، وظلّ يكذب كأنه يبصق على عالم لم يعِ خطورة الإبقاء على نظم مجرمة، وتعامل بكثير من البلادة مع انتهاكات كانت تجري على الهواء، مكتفياً بالزعيق، والتنديد، وعقوبات غبية، وخطوط حمر وهمية، لم تنقذ طفلاً من قتل بالغازات، ولا امرأة من الاغتصاب، ولا معتقلاً من التعذيب حتى الموت، ولا لاجئاً من الإذلال وحتى القتل على حدود الدول "الديمقراطية" وشواطئها.