ليبيا:صراغ الغنائم يشعل الحرب الثالثة

ريم جبر
الإثنين   2019/06/03
Getty ©
في مطلع نيسان\أبريل الماضي، اندلعت في ليبيا ما اعتبره مراقبون غربيون الحرب الأهلية الثالثة منذ 2011، إثر سعي اللواء خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا، الى وضع اليد على العاصمة طرابلس والإمساك بمقاليدها. وهو أنشأ جيشاً يأتمر بإمرته في الشرق منذ 2014، وتعاظم سلطانه مع مرور الاعوام بدعم من قوات خارجية.

وعلى رغم أن حفتر هو من بادر إلى الحملة العسكرية، دعت القوى الغربية والأمم المتحدة "الأطراف كلها" الى وقف الأعمال العسكرية. ومع إخفاق هجوم حفتر وتعثره، شجبت الولايات المتحدة خطته. ولكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما لبث أن عدل عن موقف إدارته وأعلن دعمه الجنرال حفتر في مكافحته الإرهاب وحمايته آبار النفط شرق ليبيا، على ما نقل مدير مكتب "نيويورك تايمز" السابق في القاهرة ديفيد كيركباتريك. وعلى خلاف ترامب، قال رئيس مجموعة الاتصال الروسية الخاصة بليبيا ليف دينغوف: "إن حفتر يزعم تطهير ليبيا من الارهابيين، ولكن لا يسعنا تحديد من يقصد بالارهابيين".

وتناول الباحث الألماني الخبير في الشؤون الليبية ومنطقة الساحل الافريقي ولفرام لاشر في "واشنطن بوست"، الفصل الأخير من الحوادث الليبية. وكان لاشر خصّ الميليشيات المتنازعة في ليبيا بمقالة واسعة نشرتها مجلة مجلة "هيرودوت" الفرنسية (العدد رقم 172، الصادر في الفصل الاول من 2019).

 ويرى لاشر أن حفتر حسِب أن الفرصة سانحة أمامه وأن عوده اشتد بما يكفي للخروج على مفاوضات إنشاء حكومة انتقالية. فبدأ يسعى الى تغيير واقع الأمور في ميدان المعركة. وبادر حفتر الى مفاجأة خصومه فاجتاحت قوة صغيرة تابعة له طرابلس. وأمِل في أن تلتحق بقواته المجموعات المحلية المسلحة، وأن يحمل المجتمع المحلي والمجتمع الدولي المقاتلين في طرابلس على وقف إطلاق نار، فتصبح طرابلس مقر قيادته.

رص الصفوف
لكن الأمور لم تجرِ على نحو ما يشتهي. فهجومه لم يفرق صفوف المجموعات المسلحة في غرب ليبيا، بل رصّها في مواجهته. وهو اليوم يوجه ثقله العسكري كله إلى طرابلس. والعواصم الغربية تريثت قبل إعلان مواقفها في انتظار أن يبرم حفتر اتفاقات مع المجموعات المسلحة المحلية للدخول الى طرابلس. ودعمت فرنسا حفتر طوال سنوات، وهي ترعاه حتى اليوم في الاتحاد الاوروبي ومجلس الأمن.

ونأت القوات التي توحدت لقتال حفتر عن المشاركة في النزاع على السلطة في طرابلس. فمعظم هذه المجموعات انبثقت من لجان محلية بعد الحرب على القذافي  في 2011. وإثر سقوطه، ألقى كثيرون من المقاتلين السلاح واستأنفوا الحياة العادية، وأودعوا الأسلحة الثقيلة في مخازن تشرف عليها الجماعات المحلية أو في مجمعات تابعة للمقاتلين. وتلقى كثيرون منهم رواتب وأموالاً بصفتهم ينتمون الى وحدات تابعة للحكومة، على رغم أن قلة منهم كانت تعمل فعلياً في هذه الوحدات. وفي 2014، دُعي شطر كبير منهم إلى حمل السلاح حين اندلعت حرب ليبيا الأهلية الثانية. ولكن في البلدات الأمازيغية، لم يلبِ كثيرون الدعوة هذه، ولم يقتنعوا بدواعيها.

وبعد أن خبت نيران الحرب الأهلية الثانية، شعر شطر راجح من المجموعات المسلحة بأن سفك الدماء لم يكن مبرراً وأن السياسيين استغلوهم في خدمة مصالحهم الضيقة. وفي مدن غرب ليبيا، وهي درجت في السابق على الوحدة ودعم طرف من أطراف النزاع، برزت انقسامات سياسية وتعاظمت مع مرور الوقت. وإثر مشاركة المجموعات المسلحة من مصراتة في انتزاع مدينة سرت المجاورة بمؤازرة جوية من القيادة الأميركية في أفريقيا من براثن "داعش" في معركة دموية راح ضحيتها 700 مقاتل من مصراتة وحوالى ألفي مقاتل "داعشي"، أجمع المقاتلون وقياداتهم على أنهم لن يشاركوا في أي حرب بعد اليوم.


رفض الحرب
وفي السنوات الثلاث الأخيرة، شاهد معظم مقاتلي المجموعات المسلحة هذه، وهي مصراتية في معظمها، الميليشيات وهي تضع اليد على مؤسسات الدولة الليبية في طرابلس. فحفنة من الميليشيات المحلية أنشأت كتلاً متحالفة أشرفت على نهب خزينة الدولة خدمة لمصالح دائرة ضيقة من السياسيين ورجال الأعمال وقادة الميليشيات، على ما أشار تقرير عنوانه "عاصمة الميليشيات: الجماعات المسلحة في طرابلس يقبضون على الدولة الليبية" وأعده لارت وعلاء الإدريسي باسم منظمة "سمول آرمز سورفي"، المتخصصة بتقصي شؤون العنف المسلح وانتشار السلاح الخفيف والثقيل.

ولكن في ما خلا قلة منهم، أعلن المقاتلون عزوفهم عن مواجهة الميليشيات هذه، ومنها قوات "الردع" (عبد الرؤوف كارة) و"كتيبة ثوار طرابس" و"كتيبة النواصي" و"الغنيوة". وفي العام الماضي، سعى بعض السياسيين وقادة الميليشيات طوال أشهر في مدن غرب ليبيا الى استمالة التأييد لحملة على ميليشيات طرابلس، ولم يفلحوا في ذلك.
تقارب مع حفتر
وحين اندلعت مواجهات بين مجموعات مسلحة من ترهونة جنوب طرابلس، في حملة عسكرية في آب/أغسطس 2018 على الجماعات المسلحة في طرابلس احتجاجاً على تهميشها، لم يلتحق بها عدد كبير من مقاتلي مصراتة والزنتان وغيرهما من المدن. فالقادة في مصراتة والزنتان والبلدات الأمازيغية رفضوا المشاركة في حرب جديدة. وينبّه فريديرك بوبان في صحيفة "لوموند" الفرنسية إلى أن مجموعة واحدة من مصراته بقيادة صلاح بادي، شاركت في المواجهات مع ميليشيات طرابلس. ونجح غسان سلامة، مبعوث الامم المتحدة إلى ليبيا، في إبرام اتفاق وقف اطلاق نار، وبدأت مساعٍ لتقييد نفوذ مليشيات طرابلس.

وفي ذلك الحين، كفت مدن غرب ليبيا عن مناصبة الجنرال حفتر العداء. فكثيرون من ضباط الجيش المتحدرين من الغرب قادوا مفاوضات مع مبعوثيه لتوحيد بنية القيادة. وتواصل موفدو حفتر مع قادة الميليشيات في الغرب لإبرام صفقة تتيح له حيازة موطئ قدم في طرابلس. وأبدى كثيرون من القادة في هذه المناطق الاستعداد لقبول سلطة حفتر إذا أقر للسلطة السياسية بالصدارة.

وفي هذا السياق، بدأ الدبلوماسيون الغربيون والاستخبارات الغربية وحفتر في التفكير في حظوظ فوزه بطرابلس. الماريشال عوَّل على الانقسامات في صفوف المجموعات المسلحة في غرب ليبيا وانتهازية المليشيات التي هيمنت في السنوات الثلاث الاخيرة. وحينها، غلب على تفسير النزاع  رأي مفاده أن النزاع يدور على اقتصاد الحرب من سرقة وخوات ونهب لأموال الدولة، وأن أطراف الحرب تسعى الى زيادة مكاسبها.

واستخف المسؤولون والدبلوماسيون الغربيون بتحذيرات من القوى الراسخة الجذور في الجماعات المحلية وتمسكها بالسلطة، ورفضها تسليمها إلى ديكتاتور عسكري من دون مقاومة. فالفصائل في غرب ليبيا رصت الصفوف في مواجهته، وبعض المليشيات هناك يدافع عن منطقة نفوذه. ولكن الشطر الراجح من هذه القوى يلبي نداء جماعاته لحمل السلاح للدفاع عن خطر وجودي يتهددها. وتفتقر هذه القوات الى قيادة موحدة أفقية ولكن اجتماعها غيّر موازين القوى التي كانت سائدة قبل حملة حفتر. وعلى رغم انقسامات هذه القوى، ما يشد لحمتها اليوم هو هدف واحد تصبو إليه: طرد قوات حفتر من غرب ليبيا إلى ما وراء المواقع التي كانت قواته تمسك بها قبل الهجوم للحؤول دون تهديدها طرابلس من جديد.


نزاع مرتقب على غنائم الحرب 
ولا يستخف ما تقدم بوزن المصالح المادية في النزاع. ولا شك أن المقاتلين يرمون الى جني غنائم الحرب. وحين التفكير في مآل الأسلحة التي غنمتها المليشيات من قوات حفتر، ينتاب الخوف المراقب. وحين تنتهي المعركة، سيرغب الفائزون بتقاضي ثمن النصر هذا على المستويين السياسي والمالي. وحينها، ينفرط عقد الذين اجتمعوا على مواجهة حفتر، ويندلع نزاع حاد ومدمر على غنيمة الحرب.