2019 : ثورات تزدهر، وأخرى تتعثّر!

موفق نيربية
الثلاثاء   2019/12/31
Getty ©
عشية العام 2011 وفي أشهره الثلاثة الأولى، فاجأت شعوب خمس دول عربية نفسها والعالم بالانتفاض على حالتها، وقد دخلت أغلبها في حالة عنف رهيبة بعد ذلك؛ في ليبيا وسوريا واليمن على شكل حرب أهلية وتورط خارجي مفتوح، وفي مصر على شكل عودة لنظام عسكري فقد كل مقومات جاذبيته القديمة، وجاء بدلاً منها على صورة كاريكاتورية بمقدار ما هي ديكتاتورية. وخرجت تونس ناجيةً بنفسها من هذا المصير، مستندةً إلى تاريخ أكثر إتساقاً في السلطة والمعارضة.

في حين ابتدأ ربيع جديد أكثر هدوءاً وأفضل تخطيطاً ومثابرة، انفجر في السودان في 19 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي ولحق به الانفجار الجزائري في شباط، ونزل شباب العراق إلى الشوارع ابتداءً من مطلع تشرين الأول/ أكتوبر ولحق به الشبان اللبنانيون بعد ستة عشر يوماَ.

وما بين الجولتين فروق مهمة في المسار، وغالباً في النتائج أيضاً. إلا أنها جميعاً، وقد شملت تسع دول ومجتمعات عربية، توحي أن عصر الركود قد انتهى بكل وجوهه القديمة، وهو عرضة لتفاعلات عميقة سوف تجعل العالم العربي أكثر اتساقاً وتفاعلاً مع العالم والعصر.  بذلك انتهى مفعول الخوف من قمع السلطة، والخوف من التغيير الذي ارتبط في الذهن العربي بالدمار.

في ما يخص تونس، يلفت الانتباه أنها البادئة بالربيع، والناجحة فيه، والتي استطاعت تجنب مصير غيرها في الموجة الأولى. ويغلب الظن أن بنية النظام البورقيبي، رغم التغييرات الطارئة عليه مع زين العابدين بن علي، قد كان تأسيساً لوضع اجتماعي- ثقافي قادرٍ أكثر من غيره على تجنب مآل غيره، إضافة إلى تركيبة إسلاميي تونس الأكثر معاصرة نسبياً من أشقائهم وإخوانهم في بلدان أخرى. ولعله كان في نظام بورقيبة شيء من نظام أتاتورك، وفي إسلاميي تونس شيء من إسلاميي تركيا، وفي النقطتين انحراف أيضاً.

أما مصر، التي نزلت فيها الجموع الشابة بموجات عارمة إلى ميدان التحرير في 25 يناير/كانون الثاني، وأجبرت حسني مبارك بمشورة القيادة العسكرية وتوجهاتها على الاستقالة، فقد دخلت في ثنائية مرعبة بعد ذلك، جعلت الجيش في جهة مع الدولة العميقة- العريقة، والإخوان في رأس المعارضة وبنيانها المرتجل، في توازٍ مع ثوار الميدان وطموحاتهم، من دون التقاء. وحين أدت الانتخابات إلى فوز محمد مرسي بالرئاسة، وغلب الغلوّ في الطموح والطمع في السلطة على الإخوان، كان سهلاً على الجيش الانقلاب، واستعادة زمام الأمر، أمام دهشة وارتباك شباب الثورة الضعيف التنظيم. وقد تمادت السلطة العسكرية القائمة في اللجوء إلى القمع، حتى وصل بها الأمر إلى أن تُتهم بسلوك طريق أدى إلى وفاة الرئيس المنتخب السابق أثناء محاكمته، في ظروف مشبوهة، كما قالت منظمات حقوق الإنسان ومفوضيتها في الأمم المتحدة. لن يعود الوضع في كلّ البلدان إلى ما كان عليه،  بمقدار ما عاد إلى ذلك في مصر، وتلك مصيبة مختلفة في الأثر والتأثير اللاحقين.

في سوريا وليبيا واليمن تدور حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر، وتتعرض البلاد لتدخلات خارجية متنوعة، وتتدهور الحالة الإنسانية والوحدة الوطنية بشكل يكاد يكون جذرياً. لا يتفوق وضع في حجم الكارثة بمقدار ما تفعل ذلك سوريا، التي ضيعت نصف مليون ضحية على الأقل من أبنائها، وحيدت ضعفهم على الأقل، وشردت نصف سكانها في بلاد العالم، أو ضمن الحدود. كما أن روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة تتواجد عسكرياً على أرضها، وتتنازع على الأمر قليلاً أو كثيراً. مع هؤلاء وبينهم ميليشيات متطرفة سنية وشيعية، أو مرتبطة مباشرة بهذا الطرف أو ذاك، وشعب تركه معظم أبنائه المؤهلين وهجروه أو نزحوا منه، وتدهور مستوى تعليمه بشكل جذري، وفقد الكثير من مقومات المجتمع والدولة القائمة بذاتها، وتحولت حكومته إلى ما يشبه العصابة العسكرية- الاقتصادية، العديمة الاستقلال، التائهة في زحام جماعاتها وجماعات الآخرين. وفي الأيام الأخيرة، يتجول شبح الموت والخراب فوق منطقة إدلب، مرافقاً للطيران الروسي وميليشيات شيعية وأسدية وروسية أيضاً على الأرض.

وأوضاع اليمن أيضاً قد ساءت بالقياس مع أي وضعٍ سابق. وهي تتزلزل بعنف تحت ضغط التدخل الخارجي: السعودي- الإماراتي من جهة، والإيراني من جهة أخرى، في انعكاسٍ لتوتر زيدي- سني أو لعله حوثي- سني وحسب. وقد رجع الانقسام الشمالي الجنوبي للظهور بتجليات جديدة، ربما ستكون أكثر عمقاً ونخراً في الكيان اليمني الآن وفي المستقبل. ذلك كله في إطار من الخراب الاجتماعي السياسي الاقتصادي، الذي يؤسس لحالة سوف يتعذر النهوض منها إلا بصعوبة فائقة وزمن طويل.

أما في ليبيا، فقد اشتدت وتائر التدخلات أيضاً مؤخراً، وبعد أن كان الحال قائماً على تعارض الشرق والغرب في البلاد، أصبح أيضاً مرآةً لنزاعات أكبر، لينسق الأعمال من الغرب- مع جيش حفتر- كلٌ من الإماراتيين والسعوديين والمصريين.. والروس، ولتدخل تركيا على الخط بشكل معلن وقوي ومحتمٍ باتفاقيات ومعاهدات، في ظلّ خراب وخسائر إنسانية واجتماعية وبنيوية لن يكون  ترميمها سهلاً فيما بعد.

لم يكن ليعتقد إلا القلة أن ما أصاب موجة الربيع الأولى من عطب وارتكاس؛ في سوريا خصوصاً، من انفجارٍ للطائفية المقاتلة في أبشع صورها؛ سيؤدي في النتيجة إلى ثوراتٍ أخرى "حكيمة"، تعتبر الطائفية، إضافة إلى الفساد، عدواً وهدفاً للمتظاهرين في كلٍ من لبنان والعراق. وبذلك، استطاع شبان البلدين إحياء ما كاد يتلاشى من آمالٍ وآفاق مفتوحة، وربما لدى السوريين على وجه الخصوص. وهذا ما حدث في لبنان والعراق.

ما زالت حركة الشعبين هناك حية، رغم مراهنة أعدائها على تعب وإجهاد المتظاهرين أو تشتيت قواهم. ولقد حققت تلك الثورتان في الحقيقة جزءاً رئيساً مما أرادتاه، إذ لم يعد ممكناً لأي حكومة هناك أو فئة أو ائتلاف أن يستمر على ما كان عليه، أو ألا يأخذ بالاعتبار ما حدث، وما يمكن أن يحدث بعد الآن، استمراراً أو انتفاضاً جديداً. وما زال واضحاً أيضاً أن الخصم الرئيس هنا وهناك هو في النظام الإيراني وجماعته، أو جماعاته.

في الجزائر ملامح وطنية خاصة، مثل الموقف المشترك من الجميع في السلطة والمعارضة من التدخلات الخارجية، وطول نفس الحراك وقواه المنظمة؛ الذي يأخذ بالاعتبار طول المسار، فيركز على أيام الجُمع  مثلا؛ وكذلك في الانتقال الأنيق ما بين المرونة والراديكالية لتحصيل المكاسب خطوةً خطوة. ولم يتضح بعد مدى انعكاس انتخاب رئيس جديد، ووفاة رئيس الأركان شخصية النظام الأقوى، على سياق التطورات اللاحقة. ولكن المؤشرات كلها تدلّ على تصميم عميق، لن يكتفي بما تحقق حتى الآن، وسيتابع حتى التوصل إلى دستور جديد، ونظام جديد أيضاً، رغم الفشل في الاعتراض على انتخاب رئيس جديد.

وقد سبقت السودان كلّ أطراف الموجة الثانية إلى تحقيق مراحل حاسمة في التحوّل السلمي إلى نظام جديد، مع أن تركيبة نظام البشير لم تكن أقل عناداً على التغيير، وخصوصاً باحتمائها بالإيديولوجيا الإسلامية المتزاوجة مع القوة العسكرية الضاربة.

فهنالك إذن علامات على صحة الطريق، من أهمها الابتعاد في الجوهر عن العسكرة والأسلمة والتطييف والارتهان للتدخل من الخارج، والالتزام أكثر بالكفاح السلمي والتنظيم والحكمة الوطنية، إضافة إلى العناد والتصميم على سلوك الطريق ولو كان وعراً، وتحقيق الهدف… وربما لم تضع الفرصة كلها، وربما ليس من بنيان معاصر إلا فوق الخراب، وبالتمسك بهدف الحياة الحرة الكريمة  فوق أيّ إيديولوجيا.

هنالك أيضاً دروس ضرورية وجديدة، منها أن التغيير لا بدّ له ألا يتوقف عند تحقيق سيادة الشعب من طريق الانتخابات الحرة، بل يذهب عميقاً إلى الإصلاح الاقتصادي- الاجتماعي، وحتى مكسب الانتخابات الحرة، ينبغي ألا يكون مستعجلاً قبل فترة انتقالية لازمة لتخمير وتأسيس الديموقراطية؛ وأن رأس النظام ليس هو النظام وحده، وأن الصلح في النهاية هو سيد الأحكام أيضاً.. والمسألة مفتوحة.