حين سألوني عن جرة الغاز: "فاضية أو مليانة؟"

وجيه حداد
الإثنين   2019/01/28
(انترنت)
كان أبو سامر واثقاً هذه المرة من الحصول على جرة "اسطوانة" غاز. نعم، فهذه المرة مختلفة عن المرات الثلاث الفاشلة خلال الأسبوع الماضي. على الأقل، هكذا كان يؤمّلُ نفسه.

فأبو سامر ما زال يرفض اقتناء سخانة كهربائية، بعدما شاهد بأم عينه معاناة جارته هدى الأرملة. فقد استسلمت هدى منذ 50 يوماً، عمر أزمة الغاز، ولم تجرّب حظها أبداً، فهي مقطوعة من شجرة الواسطات. واستعاضت هدى عن الغاز بسخانة كهربائية محلية الصنع، رديئة لا يتوفر بها الحد الأدنى من الأمان. الطبخ لأربعة أولاد على سخانة كهذه، وعدا أنه كثيراً ما يحرق الطعام، فهو الطريقة الأمثل لعدم اتمام الطبخة، بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل.

استعد أبو سامر جيداً، فاستيقظ في الخامسة والنصف صباحاً، وتدثّر بكثير من الثياب اتقاءً للبرد. في تمام السادسة صباحاً كان أمام مركز التوزيع بين الجمارك ودوار كفرسوسة، في العاصمة دمشق. لم يكن قد سبقه سوى 8 أشخاص، وحظيت جرته الفارغة بالرقم 9. قال بصوت مرتفع: "شو ما صار اليوم، راجع ومعي جرة معباية". أجابه رجل مسن: "مبارح نطرنا للظهر ولم تأتِ السيارة". أجاب أبو سامر: "أخذت إجازة من العمل، لأن مصادري الموثوقة أكدت لي وصول سيارة الغاز اليوم إلى هذا المركز بالتحديد". المصادر الموثوقة لم تكن سوى أبو عادل، عضو الفرقة الحزبية، وشريك أبو سامر في لعبة طرنيب الكُبّة.

أثناء الانتظار، سمع أبو سامر مئات القصص المشابهة عن أزمة الغاز وصعوبة الحصول عليه، وعن أسعار السوق السوداء التي وصلت إلى عشرة آلاف ليرة. "هذه جريمة"، صاح أحدهم: "جرة غاز بعشرة آلاف! وين الدولة؟". رد آخر: "بالشام الأزمة أقل من غيرها". قال ثالث، إن قريبه صاحب مطعم في اللاذقية، اشترى جرتين بخمسين ألفاً ليظهر له لاحقاً أنهما مُعبأتان بالماء، لا غاز فيهما. قال رجل مسن وهو يسعل: "ما ضل غير نموت من البرد والقهر"، ثم تنهد مضيفاً: "الله ياخد أمانتو ويريحنا من هالحالة".

بدوره، روى أبو سامر قصته للآخرين، فهو منذ أسبوع بلا غاز، وقد تمحورت حياته كلها حول تأمين جرة، وتحولت أسرته إلى خلية توزعت في ما بينها الاختصاصات؛ أولاده للرصد والاستعلام عن أي معلومة أو سيارة أو مكان يبيع الغاز، زوجته للعلاقات العامة والتحري من الجارات والأقارب، أما هو فكان رجل المهام الميدانية.

في كل مرة سمع فيها بوجود الغاز، كان يحمل الجرة الزرقاء الفارغة، ليهبط من الطابق الرابع، سبعين درجة راكضاً، باحثاً عن سيارة أجرة توصله إلى حيث شوهدت سيارة الغاز آخر مرة. في العادة، لا يركب أبو سامر سيارة الأجرة لغلاء أجرتها، لكن السرعة مطلوبة في هذه الحالة. ولحظات قد تُغيّر مسار القصة. في المرة الأولى، وجد سيارة الغاز متوقفة أمام ملعب الجلاء، ولكنها أنهت التوزيع للتو، بحسب ما أعلن صاحبها. وفي المرة الثانية اخبره أصحاب المحلات قرب سوق الخضرة إنه وقع ضحية إخبارية كاذبة، فالسيارة التي غادرت لم تكن توزع، بل كانت تعبئ جراراً فارغة من المستودع بغية تبديلها في يوم آخر. المرة الثالثة كانت الأكثر خيبة لأنه شهد التوزيع عند مبنى المختار، واصطفت جرته مع بقية الجرار، ورأى بأم عينه نصف من سبقوه وهم يغادرون المكان فائزين بالكنز الثمين، بالإضافة إلى عشرات الأشخاص الذين لا ينطبق عليهم الدور، لأسباب يعرفها الجميع، وربما لولاهم لحظي بمراده، كما أسّر لنفسه.

أبو سامر، استرسل لتمضية الوقت، وروى قصص جيرانه أيضاً. فشادية، جارتهم في البناية المجاورة، زوجة العميد في القصر الجمهوري، أخذت لوالدتها في اللاذقية جرة غاز ممتلئة من دمشق. وعماد الموظف في البريد، اضطر بعد تردد طويل، أمام إلحاح زوجته الشديد، للاستنجاد بأحد أقاربه النافذين لتأمين جرة غاز، بعد أن كان يدخر قريبه النافذ ليطلب منه المساعدة بتوظيف ابنه.

اليوم، في العاشرة والنصف صباحاً، وبعدما اصطف المئات خلف أبو سامر، صاح أحدهم: "وصلت السيارة"، فتحرك الجميع  ناحية الصوت، واشرأبت أعناقهم لتلمح في الجانب المقابل من الطريق سيارة الغاز وهي تخفف سرعتها، وتأخذ ناحية الرصيف. لماذا توقفت السيارة هناك، لا أحد يعلم. انتظر الحشد قليلاً قبل أن يقرر أحدهم حمل جرته والعبور إلى الطرف الآخر من الطريق ليتبعه البعض. ازداد عدد الذاهبين من الصفوف الخلفية، وبدأ دور جديد ينتظم أمام السيارة. في النهاية انهارت مقاومة أبو سامر، وكذلك أصحاب الأرقام الأولى الذين مانعوا الذهاب حفاظا على دورهم. فحملوا جرارهم مصممين على تحصيل حقهم في الأسبقية في الدور الجديد. لكن أحداً لم يعترف  بحقهم، رغم الصراخ والمشادات الكلامية والفوضى العارمة بفعل التجمهر حول السائق، الذي لم يغادر مقعده، وبقي يتحدث عبر هاتفه.

بعد قليل، تحرّك السائق 20 متراً إلى الأمام، فتحركت الجرار وتدافعت باتجاهه واختلط الحابل بالنابل لصياغة دور جديد، قرب موقع السيارة المحملة بالغاز. لكنها تحركت مرة أخرى بسرعة أكبر. فحمل الجميع جرارهم محاولين اللحاق بالسيارة المتحركة. تعثر البعض، ومنهم أبو سامر الذي أوقعته مظلته فالتوى كاحله وتدحرج مع جرته.

هذه المرة، واصل السائق سيره، حتى وصل إلى نهاية الدوّار، واستدار باتجاه مركز التوزيع، ليقف أمامه، حيث كان الدور القديم أول مرة.

من جديد عبر الناس الطريق ليشكلوا دوراً كانت الأسبقية فيه لمن وصل أولاً. حظ أبو سامر عاكسه، بسبب كاحله الملتوي. دوره الجديد لم يؤهله للحصول على جرة. ولم يستفد من صراخه وشجاره مع المسؤولين عن التوزيع، سوى ببحة في صوته. ما أثار جنونه في طريق عودته الخائبة، هو سؤال العابرين: "في غاز؟.. فاضية أو مليانة؟"، كان يرمقهم بصمت ويتابع متحاملاً ألمه، وهو يشعر في أعماق روحه أن حياته هنا خاوية بلا معنى، شبيهة بالجرة الفارغة التي ينقلها معه حيث ذهب منذ أسبوع.