متلازمة باريس السورية

مازن عزي
الخميس   2018/06/28
حالة نفسية تصيب الكثيرين (Getty)
يحاول مأمون قيادة سيارته في باريس، بالاعتماد على ذاكرته، ويرفض مراراً الالتزام بما يقترحه صوتياً تطبيق "غوغل مابس". يتحدث ببطء، ويحرك يديه ليشرح وجهة نظره حول الحياة في باريس، غافلاً عن إشارات السير حيناً، وعن المقود أحياناً.

لم يعد لمأمون قضية كبرى يدافع عنها، ويبدو مهزوماً مع ما قال إنه هزيمة الثورة، معترفاً بمرارة أن الأسد قد انتصر. لذا، فهو يحاول التعايش مع الحياة في أوروبا رغم ضجره، حالماً بمغادرتها بعدما سلبته فرنسا الكثير من أمواله على شكل ضرائب. فالعمل في باريس للقطاع الخاص من المستثمرين السوريين قد لا يبدو الخيار الأنسب لرأس مال اعتاد التهرب والربح السريع.

ثمانية أعوام في فرنسا لم تسعفه على اللهج بلغتها، إلا ربما بالحد الأدنى الكافي للتواصل اليومي وتقضية الأعمال. يداه الطويلتان للغاية تتركان المقود مرة أخرى، وهو يحكي عن حياته قبل الوصول إلى فرنسا. يسرد حكايا عن نشاطاته الثورية في الخارج، ومساعدته للاجئين في أوروبا. هذا أقل ما يستطيع فعله، على ما يقوله، وهو المطارد من قبل النظام منذ ما قبل الثورة بسنين.

تمر سيارة إسعاف مسرعة تكاد تصدمنا، فيكيل لها الشتائم، ببرود، مستدركاً الموقف في اللحظة الأخيرة، مستخدماً مكابح سيارته "بيجو" الصغيرة القديمة التي جاءته كهدية، بعدما سبق وحطم سيارة "أودي" في حادث سير على طريق باريس-برلين.

أن تكون في الخليج، قبل أن تقرر اللجوء في فرنسا، هو فعل مشروع في ضوء البحث عن وطن أفضل، لكنه يثير أيضاً أسئلة أكثر حرجاً عن الحاجة بحد ذاتها. عن اقتناص الفرصة، ولعب دور الضحية. ليس بالإمكان إصدار حكم على خيارات السوريين، وفي جعبة كل منهم قصص شخصية تختلف مرارتها وحساسيتها، وربما في أحيان كثيرة انتهازيتها. أن تصبح حكماً هو أمر لا يقل خطراً عن الفعل الذي تنظر فيه، لكن باب الأسئلة إن فتح لا يمكن مواربته بسهولة.

رغم "الضجر" الباريسي، مأمون لا يرغب بالعودة إلى الخليج. باب الخليج بات مغلقاً، والعودة إلى سوريا خارج التساؤل، والبقاء في فرنسا هو بفعل الواقع لا البطولة. ولكن، بعد سنوات اللجوء الطويلة في فرنسا يحلم مأمون بكندا. يقول إنها المكان الأفضل للأعمال. "هل زرتها من قبل؟" يتفاجأ بالسؤال.. "لا.. لكني حصلت على الفيزا أكثر من مرة يوم كنت أعمل في الخليج". "لماذا كندا وليس فرنسا؟".. تختلط الإجابة بين وقائع وحكايا ومنقولات على ألسن آخرين، قبل أن يدخل مأمون بالغلط في طريق جديد لم تُشر له الخريطة ليبعدنا أكثر عن وجهتنا.

"فرنسا أفضل من حيث الحقوق، لكن ألمانيا أفضل من حيث التقديمات"، "هولندا أجمل"، "السويد أكثر برداً"، "الألمانية صعبة"، "الفرنسية أكثر تعقيداً"، "الألمان متجهمون" و"الفرنسيون متعالون" و"السويديون باردون".. هي مقولات صارت بحكم التكرار أحكاماً مبرمة أشبه بالنحت في فضاء اللجوء السوري في أوروبا. مقارنات لا تتوقف، باتت رغم مغالطاتها تساهم في تحديد وجهة اللاجئين النهائية.

زوجة مأمون التي ركبت البلم من تركيا إلى أوروبا، وتنقلت بين ألمانيا وهولندا قبل أن تتعرف على مأمون وينتهي بها المطاف في فرنسا تبدو أكثر منه حماسة لباريس. تقول إنها اعتادت العيش هنا. بعد سنة كاملة من تجربة العيش في مخيم في ألمانيا وتعلم اللغة هناك، تجد أن فرنسا أفضل للاجئين. الزوجة الخارجة من منطقة باردة في "سوريا المفيدة" تقول إن العائدين من ألمانيا إلى سوريا باتوا بالمئات اسبوعياً. أخوها الذي شاطرها رحلة الذهاب إلى الشواطىء الأوروبية بالبلم، عاد مؤخراً وحيداً في رحلة الأياب إلى سوريا. تقول الزوجة إن الطائرة التي أقلت أخيها من ألمانيا كانت ممتلئة بالسوريين العائدين.

فلا شيء يمكن فعله في ألمانيا سوى الانتظار، تقول الزوجة. "تعيش في مخيم لمدة قد تطول لعام أو أكثر بانتظار أوراق وحكم قضائي". في الانتظار، يعيش اللاجئون ملل الانتظار، يتسلمون مخصصاتهم المالية بانتظام، يتعلمون اللغة، ولا شيء آخر سوى مراقبة تعاقب الفصول. التقديمات في ألمانيا أفضل للسوريين، تقول، لكن الحياة باهتة في أصقاع البلاد النائية. هنا في باريس الحياة أكثر نشاطاً وتألقاً، بحسبها. لكن مأمون يخالفها الرأي. بالنسبة له، العودة إلى سوريا ممكنة إن سقط النظام، وهي أهون من البقاء في فرنسا.

مشكلة مأمون مع باريس ليست حالة فرية، كما يقول، بل هي حالة نفسية تصيب الكثيرين، خاصة اليابانيين، وتسمى "متلازمة باريس". فالمدينة الساحرة النابضة بالحياة، ليست بالنسبة لهؤلاء سوى مدينة عادية مملة. يقول مأمون إنه عندما زار شارع الشانزليزيه للمرة الأولى شعر بخيبة أمل كبيرة، فما هو إلا شارع عادي يضاهيه ببساطة أقل شارع في دبي.

أراقب بطرف عيني "غوغل مابس" عبر شاشة هاتف مأمون المحمول الموضوع بلا إكتراث على تابلو السيارة، وأرشده مرة أخرى إلى وجهتنا، فينظر إلي مستغرباً، وأنا القادم حديثاً إلى باريس، ويتمتم ببطء: "كيف عرفت المدينة بهالسرعة؟".. أضحك مدعياً السذاجة لأغالب توتري، فقد أدخلنا مأمون بـ"الغلط" أوتوستراداً هذه المرة.. هارباً على ما يبدو من أزقة باريس "المملة".