حكومة سلام أميركية

وليد بركسية
الثلاثاء   2018/03/27
Getty ©

رغم التغييرات الأخيرة في البيت الأبيض، والتي استبدل فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في أقل من أسبوعين، وزير خارجيته ريكس تيليرسون ومستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر برجلين من صقور الحرب، هما مايك بومبيو وجون بولتون على التوالي، إلا أن ذلك لا يجعل من الإدارة الأميركية الحالية إدارة حرب بالضرورة، بقدر ما تشير إلى الكيفية غير التقليدية التي يدير بها ترامب ملفات السياسة الخارجية، كرجل أعمال واقتصادي بارع بالدرجة الأولى.

ومنذ حملته الانتخابية الجدلية، طرح ترامب نفسه كرجل سلام لا رجل حرب، في أفعاله لا تصريحاته على الأقل؛ باستثناء الضربة الصاروخية التي قام بها ضد النظام السوري إثر مجزرة خان شيخون في نيسان/أبريل الماضي، كانت قرارات إدارة ترامب بعيدة عن الصدامات. وارتبط كل فعل أميركي تصعيدي، مثل زيادة عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان في آب/اغسطس الماضي، على سبيل المثال، بتصريحات وتسريبات دبلوماسية موازية عن الرغبة الأميركية بإجراء مفاوضات مباشرة مع حركة "طالبان". وهي ثنائية تلقي الضوء على طريقة عمل منظومة السياسة الخارجية في البيت الأبيض، التي يؤمن ترامب بأنها تقتصر عليه فقط.

ويمتلك ترامب فكرة أساسية، شدد عليها في عدد من تصريحاته وتغريداته منذ إعلانه الترشح للرئاسة وبعد أن وصل للبيت الأبيض: رغبته في إثبات أنه سيكون أفضل رئيس في تاريخ الولايات المتحدة. وهو نوع من الهوس الشخصي، على ما يبدو، لإثبات أن خصومه والساخرين منه كانوا على خطأ عندما قللوا من جدارته السياسية حتى لو كان الرئيس الوحيد في تاريخ البلاد الآتي من خلفية اقتصادية بحتة، من دون أي خبرة في المجالين السياسي أو العسكري.

وبالتالي، فإن ترامب يريد تخطي إنجازات الرؤساء السابقين، وبالتحديد في مجال السياسة الخارجية المهمة في "الإرث الرئاسي"، فإن كان الرئيس السابق باراك أوباما ناجحاً في عقد اتفاقية أنهت الخلاف الأميركي طويل الأمد مع كوبا، يريد ترامب التفوق على ذلك الإنجاز "الصغير" بعقد اتفاقية مع الخطر الأكبر المتمثل في كوريا الشمالية، وإن كان الاتفاق النووي الذي أنجزه أوباما محدوداً يريد ترامب جعله دائماً وضم بنود أكثر صرامة إليه تتعلق باتفاقية تكميلية تشمل برنامج إيران للصواريخ الباليستية، وجهودها المزعزعة للاستقرار في المنطقة.

فضلاً عن ذلك، يريد ترامب القيام بالمستحيل، أي ما فشل فيه كل الرؤساء السابقين، وهو إحراز تقدم حقيقي في عملية السلام العربي-الإسرائيلي المتعثرة، رغم أن طرفي النزاع الأساسيين لا يظهران اهتماماً بالرجوع إلى طاولة المفاوضات أصلاً. ويتمثل ذلك بطرحه لـ "الصفقة النهائية" للسلام في المنطقة، والتي روج لها منذ زيارته الخارجية الأولى في أيار/مايو الماضي، التي شملت السعودية وإسرائيل والفاتيكان، عبر جولات مكوكية قادها مستشاره البارز جاريد كوشنر في المنطقة خلال الأشهر الماضية.

ويصبح توقيت التغييرات الحاصلة في البيت الأبيض وفق هذا الطرح، جوهرياً، فهو يأتي قبل نحو شهرين من موعدين متزامنين، الأول قرار ترامب النهائي بشأن بقاء الولايات المتحدة في الاتفاق النووي أو الانسحاب منه، والثاني لقاء القمة الذي أعلن عنه مؤخراً بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. ويتزامن ذلك مع مفاوضات أوروبية مكثفة مع طهران من أجل القبول بمفاوضات جديدة بشأن الاتفاق النووي الإيراني.

وباستبدال تيليرسون ومكماستر، الصوتين الهادئين في الإدارة، بشخصيتين من أكثر المتشددين في صقور الجمهوريين "Ultra-Hawks"، لا يصرح ترامب بإعلان حرب، بل يبحث فقط عن نفوذ يجعله صاحب اليد العليا في مفاوضاته المستقبلية القادمة مع طهران وبيونغ يانغ، وهو نفوذ كان ترامب يدرك أنه ليس موجوداً أصلاً، وبات يستمده اليوم من التهديد بإمكانية التصعيد ضدهما عسكرياً في حال عدم رغبتهما في التفاوض، لكون الأسماء الجديدة في إدارته تمتلك تاريخاً في التصعيد اللفظي المتمثل بالدعوة لشن ضربات عسكرية استباقية ضد إيران وكوريا الشمالية.

والحال أن ترامب، رجل الأعمال الناجح وصاحب السمعة بعقد أكثر الصفقات تعقيداً في عالم البزنس، ينقل هذه الخبرة إلى البيت الأبيض، ولا يمكن القول أن هذه الأساليب لم تجد نفعاً حتى اللحظة، لأنها مازالت قيد الممارسة ولم تبلغ بعد نتيجتها النهائية. ومع ذلك، فإن الرهانات تبقى كبيرة، لأن المجال الذي تحدث فيه ضيق ويتضمن شخصيات خطيرة وأسلحة نووية ومصالح متضاربة، بما في ذلك مصالح أكبر الشركات العالمية، الأوروبية والأميركية، التي دخلت على خط المفاوضات الإيرانية على الأقل، لضمان استمرارية الاستثمارات المربحة إيران، ويدل على ذلك التقارير الأخيرة بشأن ضغوط شركة "توتال" الفرنسية على الإليزيه الذي يقود المفاوضات الأوروبية مع طهران حالياً.

ومع استبعاد شن حرب مباشرة ضد إيران، فإن معالجة مخاوف حلفاء واشنطن في السعودية وتل أبيب من الخطر الإيراني، يعالج في سياق متصل، عبر معالجة الوجود الإيراني في سوريا، والسماح بإجراء ضربات عسكرية ضد القواعد الإيرانية، لا تشارك فيها واشنطن مباشرة على الأغلب، بسبب الوجود الروسي الرادع لذلك، وهو ليس مجرد ضغط إضافي تهدد به واشنطن طهران في المفاوضات التي لم تحدث بعد بينهما، بل يمثل أيضاً مكافأة جانبية تجذب بها واشنطن كلاً من إسرائيل والسعودية نحو إطلاق مفاوضات لحل الصراع العربي - الإسرائيلي.

ذلك ربما يقود إلى مقامرة جديدة: مقابل عمليات محدودة في سوريا، تلتزم كل من إسرائيل والسعودية ببذل جهود أكبر في صفقة السلام الكبرى في المنطقة، عبر ضغط الرياض وبقية الدول العربية على الفلسطينيين للقبول بتقديم تنازلات مؤلمة في المفاوضات القادمة تفوق ما تم تقديمه منذ عملية أوسلو، والتزام تل أبيب بحل الدولتين مع حوافز إضافية تتمثل بعلاقات أوثق مع الدول العربية لتشكيل ائتلاف رسمي أو غير رسمي ضد إيران. ويشكل الاعتراف الأميركي المبكر بالقدس عاصمة لإسرائيل هنا ورقة ضغط أميركية مزدوجة على كافة أطراف الصراع.

وعليه يمكن القول أن البحث عن النفوذ من أجل خلق مساحة جديدة للتفاوض، يشكل أساس استراتيجية المقامرة هذه. وفي حال نجاحها فإن ترامب فعلاً سيثبت أنه عبقري في فن صناعة الصفقات المستحيلة، أما فشلها فيعني دليلاً جديداً على أن عصر القيادة الأميركية للعالم قد انتهى فعلاً، مع وجود لاعبين دوليين مؤثرين في كل الملفات السابقة هما روسيا والصين. وقد يسرع ذلك الفشل في تحويل التهديدات والضغوط إلى استراتيجية جديدة في البيت الأبيض، وحينها فقط ستبدأ جولة جديدة من الموت والعنف في المنطقة، وربما العالم.