روسيا الخصم.. والحَكَم

مازن عزي
الإثنين   2017/03/13
تبدو روسيا وكأنها تصل ما انقطع حبله قبل مئة عام (أ ف ب)
السباق على تقاسم سوريا، ضمن مناطق نفوذ يسيطر عليها وكلاء محليون يوالون قوى إقليمية أو دولية، وعدا أنها تثير إشكالية المسؤول/العميل، فإنها تستند إلى محصلة توازن ثنائية؛ بين القوى الخارجية من جهة، والوكلاء من جهة أخرى. وإذا كان الروس قد صاروا أصحاب اليد العليا في سوريا، فإنهم باتوا يقومون بدورين متوازيين؛ طرف فاعل في الحرب، ووسيط/حكم بين الأطراف الأخرى.

الأزمة في محيط منبج، شرقي حلب، أظهرت بوضوح، حجم القوى المحلية والحدود المرسومة لها، بالاستناد إلى التوازنات الداخلية، الإقليمية والدولية. فالرغبة التركية بدخول منبج المسيطر عليها من "قوات سوريا الديموقراطية" بعد انهاء "درع الفرات" لجيب "الدولة الاسلامية" في الباب وقباسين، قوبلت باعتراض أميركي. "وحدات حماية الشعب" الذراع العسكرية لحزب "الاتحاد الديموقراطي" الكردي، المدعومة أميركياً، وجدت تحدياً صعباً من قبل "درع الفرات"، ما دفعها لطلب الدعم الروسي. الوكالة الأميركية لـ"قسد" لم تشفع لها أمام "درع الفرات" التي يحظى بعض فصائلها بدعم أميركي أيضاً. دخول الروس، على هيئة قوات النظام، إلى منبج والعريمة ومحيطهما الغربي، خلق منطقة عازلة بين "قسد" و"درع الفرات"، بين الأميركيين والأتراك، وأوقف مؤقتاً تصاعد الأزمة بينهما.

التبني الأميركي لـ"قسد" باعتبارها الحليف "الأكثر موثوقية" في قتال "الدولة الإسلامية"، يُظهر إشكالية المسؤول/العميل بوضوح. فالوكيل، ليس طرفاً منفذاً فحسب، بل صاحب مصالح يجب أن يراعيها المسؤول. الاشتباك في المصالح بين الوكلاء، يمكن أن يتحول إلى اشتباك في المصالح بين الوكلاء ورعاتهم. في لحظة الصراع على منبج، دخل الروس، كراع احتياطي لـ"قسد" وقوة فصل، الأمر الذي هدّأ الأتراك. فالروس "أكثر موثوقية" من الأميركيين في الموضوع الكردي/السوري بالنسبة للأتراك. إذ ومع تطور تدخلهم، أظهر الروس مرونة في تفهم مصالح القوى الإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية، وسعوا إلى تهدئة مخاوفهم من بعضهم البعض. وهكذا بدأ الروس القيام بدور الوسيط، بين أطراف متحاربة أو متحالفة، في منطقة غنائم. ما يصح على الشمال السوري، يصح أيضاً على الجنوب، فالإشتباك الإيراني-الإسرائيلي، قائم على عنصر مركزي في الوعي الإمبريالي الروسي: للآخرين مصالحهم أيضاً، ومتى لم تتعرض تلك للمصالح الروسية، فلا بأس من اقتتالهم.

الاشتباك لم يقف هنا، فالحكومة التركية، ألغت تصريح عمل منظمة "ميرسي كوربس" الإنسانية الأميركية، والتي تنشط في الشمال السوري، خاصة في منطقة منبج. بعدها بيومين، أصدر "مكتب حقوق الإنسان" في "الأمم المتحدة" تقريراً يدين انتهاكات ممنهجة تركية ضد الأكراد جنوبي تركيا، في الفترة بين تموز 2015 وكانون الأول 2016. وعدا عن التساؤل عن صمت "الأمم المتحدة" عاماً كاملاً قبل إدانة تلك الإنتهاكات، فإن تأزم العلاقات التركية الأوروبية، يصب في المنحى ذاته.

تدهور العلاقات السريع بين تركيا والولايات المتحدة، ومن بعدها مع أوروبا، يظهر افتراقاً إلى حدّ القطيعة بين تركيا والغرب، لذا فإن إعادة التموضع التي قام بها الرئيس التركي بإتجاه روسيا، خلال العام الماضي، والتي توجتها زيارته إلى موسكو في 10 آذار/مارس، يجب قراءتها بمزيد من التحليل، انطلاقاً من توازنات القوى، وإعادة تشكيل النظام العالمي.

الأميركيون كانوا قد قدموا الوعود لأطراف متعددة في سوريا، ولم يدافعوا عن مصالح أي منهم حتى النهاية. فدعموا فصائل معارضة سورية، لكنهم وقفوا في موقع المتفرج عليها، وهي تتعرض للقصف من روسيا، والاجتثاث من النظام ومليشيات إيران، وحتى من قبل الإسلاميين الجهاديين. ودعم الأميركيون مليشيات كردية، مشتبكة المصالح مع الدولة التركية، وقدموا وعوداً متناقضة للطرفين، لم يتمكن من حسمها سوى التدخل الروسي في النهاية.

في هذه المقاربة، يمكن القول إن روسيا، باتت اللاعب الأهم عالمياً، انطلاقاً من مكاسبها في الملف السوري، وقدرتها على إدارة نزاعات جميع الأطراف فيه؛ من تحييد عملية سياسية دولية في جنيف لصالح مؤتمر جانبي في أستانة، إلى فض الاشتباك في الأجواء السورية، ووقف انهيار النظام، وكسر المعارضة من دون إفنائها.

وتركيا، التي وجدت في روسيا حليفاً موثوقاً، كانت قد جربت مرارة التحالف مع الأميركيين في العراق وسوريا، ومرارة طرق أبواب الأوروبيين. الاتهامات التركية المبطنة لأميركا، برعاية الإنقلاب الفاشل، هي في صلب هذه المرارة.

من جانب آخر، ألا يجب الاستماع إلى ما يقوله كبير استراتيجيي "البيت الأبيض" ستيف بانون، عن النظام العالمي الجديد؟ فالعالم بحسب بانون، صار بحاجة إلى إعادة ترتيب، بحيث يجب تفكيك "الإتحاد الأوروبي" وانهاء خدمات "حلف شمال الأطلسي"، وإقامة حلف بين أميركا وروسيا. في هذا العالم الجديد، الإسلام هو العدو الأول، والصين هي العدو الثاني. يقترب كلام بانون، في شطره الأول، من تنظيرات ألكسندر دوغين، وكذلك من تحليلات مقربين من الكرملين، كديمتري ترينين. تنظيرات تقوم على فهم العالم ضمن منظور "الكيانات الحضارية" والعودة إلى سياق الصراع في القرن التاسع عشر، أي ما قبل الحرب العالمية الأولى وتحالفاتها الكبرى. حينها خرجت روسيا من عملية تقاسم غنائم الحرب في الامبراطورية العثمانية، مع سقوط القيصر وثورة أكتوبر 1917، وما تبعها من هيمنة البلاشفة على الحكم.

فَهمُ روسيا الحالي للسياسة الخارجية، والمتمركز حول "الجيوبولتيك" ومناطق النفوذ، وتدخلها في انتخابات الديموقراطيات الغربية، هو بدوره، إعادة تشكيل للعالم، كما يراه فلاديمير بوتين. فصعود روسيا اليوم، كطرف وحكَم، في مناطق محاذية لحدود هيمنتها التاريخية، من الشمال الشرقي الأوروبي إلى سوريا، ليس تفصيلاً عابراً. في هذه اللحظة تبدو روسيا وكأنها تصل ما انقطع حبله قبل مئة عام، إذ ترى أن بإمكانها القيام بدور بريطانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى.

في تلك الحقبة، ورغم أن رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، كان قد توقع التوصل إلى اتفاق خلال أسبوع، بخصوص تقاسم التركة العثمانية، بعد استسلام تركيا لبريطانيا في تشرين الأول 1918، فقد استمرت المفاوضات قرابة عامين. وتوجب انتظار "مؤتمر لندن للسلام" والمرور بـ"مؤتمر سان ريمو" وصولاً إلى "معاهدة سيفر" في العام 19020، قبل أن يصبح التقاسم ممكناً.

تعقيدات المفاوضات لم تكن متعلقة بالزمن فقط، بل بتشابك مصالح الحلفاء والوكلاء، والصراعات الجانبية بينهم. فبريطانيا، بعدما أدخلت أكثر من مليونين ونصف المليون مقاتل إلى الشرق الأوسط، حاولت التملص من تعهداتها السابقة مع فرنسا في "اتفاقية سايكس بيكو" 1916، ومع إيطاليا في "اتفاقية سان جون دو ماورين" 1917، متذرعة بحجم تضحياتها الهائل في الحرب مع العثمانيين، مقابل المشاركة الخجولة جداً للحلفاء على جبهات الشرق الأوسط. بريطانيا، بالإضافة إلى تعهداتها لإيطاليا وفرنسا وروسيا، كانت قد عقدت مجموعة مع الاتفاقات مع الحركة الصهيونية والشريف حسين والقوميين العرب، تعهدت فيها بمنحهم مناطق نفوذ وحكم ذاتي مستقل. المشكلة الكبرى كانت في تناقض التعهدات البريطانية للأطراف المختلفة، وعدم رغبتها الضمنية في تقاسم المنطقة مع أحد.

وفي سبيل ذلك، حاول لويد جورج، ضرب الحلفاء ببعضهم البعض، حتى انه حاول استخدام وودرو ويلسون، الرئيس الأميركي، وبنود مبادئه الـ14، لتنفيذ مطامحه. واستفرد جورج بالحلفاء تباعاً، فأخرج ايطاليا من تركيا، بعدما كانت قد استولت على أنطاليا وزحفت قواتها باتجاه أزمير. حينها وافقت فرنسا وأميركا، مع بريطانيا، على حق اليونان، آخر المنضمين للحلفاء، بالحصول على أزمير ذات الجالية اليونانية التاريخية، بما يتوافق مع بند "الحق في تقرير المصير" الخاص بويلسون. لويد جورج كان قد اخذ من التنازلات من كليمنصو، ما لا يطيقه، ومع ذلك استمر في محاولاته تحييد فرنسا عن الشرق الأوسط. كليمنصو كان قد سأل لويد جورج، في العام 1918، عما يريده زيادة عن "اتفاقية سايكس بيكو"، فأجابه: أريد الموصل، فقال كلمنصو: هي لك، وماذا أيضاً؟ فقال جورج: أريد فلسطين، فرد كليمنصو: هي لك أيضاً.

خروج روسيا من الحرب الأولى، وخسائرها اللاحقة مع اندلاع الحرب الأهلية فيها، كانت قد حرمتها من حصتها في الامبراطورية العثمانية، وليس أقلها في اسطنبول وبحر مرمرة، لتحكم من خلالها السيطرة على البحر الأسود، وتتمتع بمنفذ إلى المتوسط. لا بل إن السلطنة العثمانية، وفي آخر اندفاعة لها قبل استسلامها، كانت قد وصلت إلى بحر قزوين، منتزعة جورجيا والقوقاز من روسيا.

تركيا كانت قد دخلت الحرب الأولى إلى جانب ألمانيا، بعدما رفضت بريطانيا وفرنسا حمايتها من روسيا، واليوم إذ يتغير العالم، بحيث بات يقف رأساً على عقب، صارت تركيا في حلف مع روسيا، على الأقل لحمايتها من الغرب.

المشكلة الوحيدة، في تلك المقاربة التاريخية، إن ما تقوم به روسيا اليوم، هو تقسيم الغنائم وجوائز الترضية بين الوكلاء/المسؤولين، على الأرض السورية، في حين أن الأميركيين ما زالوا يكيلون الوعود للجميع. والنظام العالمي اليوم إذ يُعاد تشكيله، فإن توازنات القوى في الصراع السوري، قد تكون مؤشراً إلى الفوضى القادمة.