مليشيا بوتين

مازن عزي
السبت   2016/09/24
قصف قافلة المساعدات في حلب انتقام لا يليق إلا بمليشيا (انترنت)
ليست الحروب بالمسارات الخطية ذات الإتجاه الواحد، فالأثر الذي تنتجه، يتفاعل مع جميع الأطراف المتورطة فيها، ومع الوقت، لا بد أن يلحق تغيير بتكوينها وبنيتها وعقائدها. وروسيا، بوصفها إحدى أهم القوى المتورطة في الحرب السورية، استلهمت نموذج الصراع السوري القائم على المليشيات المحلية والإقليمية، وطبّقته على أرضها.

لم تكتف روسيا بقصف قافلة إغاثية في بلدة أورم الكبرى غربي حلب، بل ادعت أن المعارضة قامت بذلك، قبل أن تقول إن "النار اشتعلت في القافلة من تلقاء ذاتها"، ثم اتّهمت طائرة أميركية بلا طيار، بالقصف. جريمة الحرب التي ارتكبها الطيران الروسي، ليست استثناءً، بل هي حلقة في نهج تدميري قصدي، يستهدف البنى الحيوية والمنشآت الطبية ومراكز الاسعاف و"ذوي الخوذات البيضاء". النهج الروسي يتعمّد حرمان المدنيين في مناطق المعارضة من الخدمات الطبية بغرض تحويل الجرحى والمرضى إلى مشاريع موتى، فضلاً عن احكام الحصار لتطبيق سياسة "التجويع والتركيع" كحلقة في مسلسل "التطهير العرقي".

السلوك الروسي ليس مفاجئاً، فالكرملين في مقاربته لسوريا وأوكرانيا، بات يعتمد على مليشيات موالية تحكم مناطق واسعة فيهما. الأمر سرعان ما انعكس وطاول البيت الروسي الداخلي؛ فتشكيل مليشيا "الحرس الوطني" بقوام 400 ألف مقاتل، في تموز/يوليو، وتبعيتهم المباشرة للرئيس فلاديمير بوتين، هو النموذج المشتهى للدولة/المليشيا. تعداد عناصر "الحرس الوطني" فاق تعداد الجيش الروسي، وبمهام تتضمن "مكافحة الارهاب" والتدخل السريع لفض التمرد. مليشيا "الحرس الوطني" الروسية، الحائزة على تفويض شرعي من "مجلس الدوما" السابق، لها مهمة حقيقية واحدة: مواجهة الداخل الروسي الغارق في أزماته الاقتصادية؛ فخزينة روسيا قد تفرغ في منتصف العام 2017، بحسب "CNN Money" الأمر الذي يدفع بوتين لتعزيز قبضته على السلطة، وتهميش مراكز القوى في الدولة الروسية.

بوتين المهجوس بالخوف من الانقلاب عليه، بات متوجساً من محيطه، وأقال عدداً من المسؤولين الذين رافقوا صعوده إلى السلطة، وأعاد توزيع مهام مناصبهم على مجموعة باتت تُعرفُ باسم "أناس بوتين"، ممن لا يرفضون له طلباً ولا يمثلون له أي مصدر للتهديد. حتى أن بوتين عيّن ثلاثة من حرسه الشخصي، كمحافظين لمقاطعات روسية. ومؤخراً، أصدر الرئيس الروسي، قراراً بإعادة توحيد أجهزة الاستخبارات الروسية، تحت وزارة جديدة باسم "أمن الدولة"، الأمر الذي أشارت له صحيفة "فورين بوليسي" بأنه بعثٌ لجهاز "كي جي بي" أو "لجنة أمن الدولة" السوفياتية.

خوف بوتين من الوضع الداخلي المأزوم، يدفعه للهجوم خارجاً. فالعُرفُ الروسي، يقول إن لا شيء يُسكّنُ روسيا الجائعة سوى "انتصارات" روسيا القوية، وعودتها لاعباً "متدخلاً" في مجرى التاريخ. لكن وَهمَ الانتصار، القائم على دماء السوريين وأشلائهم، قد لا يدوم طويلاً. فالأزمة في سوريا لم تعد تتعلق بطرفين دوليين، مهما حاولا حصر التفاوض بينهما. وجود عدد كبير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، في الملعب السوري، هو الوصفة المثالية لاستمرار الحرب. فلا يمكن انتاج تسوية من دون توافق على مصالح أولئك اللاعبين جميعاً. يكفي استياء طرف منهم، حتى يضمن ذلك استمرار تدفق السلاح إلى الساحة السورية. وروسيا، وإن بدت صاحبة اليد العليا في سوريا، عبر شبكات المصالح والنفوذ في مناطق النظام، وعبر العنف الوحشي في مناطق المعارضة، إلا أن ذلك لا يُمثلُ سوى وَهمِ القوة. وعدا عن عدم مشروعية التدخل الروسي في سوريا، القائم على الدفاع عن "السيادة" ضد "حق الحماية"، والبناء الهائل من الأكاذيب الذي تنسجه حول مهامها، فإن اﻷزمة الروسية الكبرى، هي رؤيتها للساحة السورية كملعب لمواجهة الغرب.

وفي المقابل، تبدي أميركا، استسلاماً أمام الفعل الروسي في سوريا، وتسقط خطوطها الحُمر، الواحدة تلو الأخرى، في لهاث حول "الحل السياسي" والديبلوماسية المفتقرة إلى عوامل القوة على الأرض. فإدارة الرئيس أوباما، مع التزامها بـ"الاتفاق النووي"، قدّمت سوريا كمكافأة جانبية للإيرانيين، ملتزمة بعدم اسقاط النظام السوري. إلا أن محور طهران/موسكو، بات يرى في سوريا، إمكانية لعرض القوة بلا حساب.

الغارة الأميركية على مواقع قوات النظام في جبل الثردة في ديرالزور، والتي بدت احتجاجاً علنياً من وزارة الدفاع الأميركية على دور وزارة الخارجية التنازلي للروس، ردّ عليها الكرملين بقصف قافلة مساعدات إنسانية إلى حلب. دولة عضو في "مجلس الأمن" تقصف قافلة مساعدات تابعة لـ"الأمم المتحدة"، أمر لا يُمكن القول إنه تجاوز لمعايير الكرملين الإنسانية، فقبل عامين أسقطت قوات روسية طائرة ركاب ماليزية شرقي أوكرانيا. انتقام لا يليق إلا بمليشيا.

وكانت موسكو قد عززت، خلال السنوات الماضية، تعاملَها مع المليشيات الشيعية في سوريا، وصارت القوات "الفضائية" الروسية تعمل كغطاء جوي لتلك المليشيات. ويتوافق هذا مع نظرية روسيّة حول أساليب "الحرب الهجينة"، ومواجهة الغرب بنشر الفوضى وتدفق المعلومات التشويشية. موسكو، ورغم ادعاء حرصها على حماية أجهزة الدولة السورية وسيادتها، إلا أن اعتمادها على المليشيات، صار أساساً في مقاربتها للحرب السورية. ومع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر، وبعدما سرت شائعات عن سعيها لحلّ مليشيا "الدفاع الوطني" ودمجها في قوات النظام، عادت موسكو للاعتماد عليها وعلى غيرها من المليشيات الشيعية، وعلى رأسها "حزب الله" اللبناني.

والمليشيات هي الصيغة الإيرانية للسيطرة الإقليمية؛ فالمليشيات الشيعية تُحقق عبر فائض قوتها العسكرية، ما تعجز عن تحقيقه الجماعات الشيعية سياسياً. غياب السياسة في إيران، وحصرها ضمن معسكر "الخمينية"، جعل من الاعتماد على المليشيات داخلياً وخارجياً سياسة لتصدير "الثورة" أو الهيمنة على الإقليم. والمليشيات في الدولة، هي فعل مضاد وطارد للسياسة، وتمكين لجماعة مسلحة من غلبة بقية الجماعات. الجماعة المسلحة ضد الجماعة السياسية، أو العنف ضد السياسة، هو النموذج الإيراني المتبع في بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت. فاليوم باتت "دول" المشرق العربي محكومة بمليشيات شيعية مسلحة تستند إلى "مظلومية تاريخية" وعقيدة "خمينية"، في استنساخ لتجربة "الحرس الثوري الإيراني".

وموسكو اليوم تدعم المليشيات الشيعية العابرة للقوميات في سوريا. مليشيات باتت تتقاسم النفوذ في "الدولة" السورية، وتنفذ فيها مشاريع خاصة بها، ليس أقلها التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي. فالمليشيات صارت من القوة بحيث تفرض "رغبتها" السياسية على الضد من المجتمعات المحلية.

الوصفة الإيرانية للدولة/المليشيا، لاقت صداها في الكرملين. وانشاء مليشيا "الحرس الوطني" تحت سلطة بوتين مباشرة، وبصلاحيات غير محدودة، وتسليح استثنائي، هو التأثير المعاكس لنتائج الحرب في سوريا على موسكو.

وإذا كانت القيادة الروسية، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، غالباً ما وصفت بـ"الاوليغارشيا" أو "المافيا"، فهي اليوم قد دخلت طور تحوّل جديد: الدولة/المليشيا.