"القاعدة" لـ"طالبان": "على العهد باقون".. ولكن!

عقيل حسين
الثلاثاء   2016/06/14
تجاهلت "طالبان" كعادتها مثل هذه المفاصلات، على اعتبار أنها ليست بالأصل جزءاً من الحقل السلفي الجهادي (انترنت)
في كل مناسبة، تعود قضية العلاقة بين تنظيم "القاعدة" و"حركة طالبان" الأفغانية للجدل، محمولة على تحليلات كثيرة، تعتمد على القليل من التفاصيل، ومعلومات شحيحة لا تحسم شيئاً في النهاية.

عودة الجدل هذه المرة، كانت مناسبته البيعة التي جددها التنظيم للحركة مطلع هذا الأسبوع، بعد تسمية الملا هيبة الله آخند زادة، أميراً جديداً لها، عقب مقتل الأمير السابق الملا أختر منصور، جراء غارة جوية أميركية، في أيار/مايو.

لكن وبينما كان يفترض أن تحسم البيعة التي قدمها زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري، الجمعة، وتقطع الطريق أمام المشككين بهذه العلاقة، فقد استغل هؤلاء تفاصيل في نص البيعة، ومعلومات مصادرها غير رسمية، رأوا فيها تأكيدات على ما سبق وتحدثوا حوله.

وقد سبق لهؤلاء أن اعتبروا تأخر تنظيم "القاعدة" إعلان البيعة للأمير السابق لحركة "طالبان" أختر منصور، دليلاً على أن التنظيم يفكر بالتحلل من البيعة التي في عنقه للحركة، وأن قيادته التي تبحث عن مخرج مناسب، لن تجد أفضل من القول، إن بيعتها كانت لأمير الحركة الأسبق الملا عمر، وأنها تنحل بموته.

إلا أن خروج زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، في كلمة صوتية، تم بثها في 13 أب/اغسطس 2015، جدد فيها بيعة التنظيم للحركة، بعد اختيار منصور خلفاً للملا عمر، أغلق باب الجدل والتأويلات، لكن ليس تماماً، وليس نهائياً، حيث اعتبر المشككون أن تأخر البيعة أكثر من شهر حينها، دليلٌ على صحة ما أثاروه، وخاصة لجهة خلافات بين قادة "القاعدة"، تم حسمه بعد جدل، لصالح الاستمرار في الارتباط بالحركة، ولكن بشروط.

والحقيقة، فإن البيعة التي قدمها الظواهري لأختر منصور، استحقت أن توصف بأنها بيعة مشروطة بالفعل، حيث أكد زعيم "القاعدة" حينها، أن التنظيم يبايع منصور "على حاكمية الشريعة، وعلى البراءة من كل حاكم أو نظام أو وضع أو عهد أو اتفاق أو ميثاق يخالف الشريعة، سواء أكان نظاماً داخل بلاد المسلمين أو خارجها، من الأنظمة أو الهيئات أو المنظمات التي تخالف أنظمتها الشريعة، كهيئة الأمم المتحدة وغيرها .. وعلى الجهاد لتحرير كل شبر من بلاد المسلمين، وعلى جهاد الحكام المبدلين للشرائع، ونصرة المستضعفين المؤمنين في كل مكان، وعلى اقامة الخلافة على منهاج النبوة".

وهذا النص في البيعة، الذي أقل ما يمكن أن يوصف بأنه غاية في التشدد، خاصة على جماعة تقاتل في الجبال والمناطق النائية من بلاد واسعة الجغرافية كأفغانستان، في ظل حضور دولي عسكري وأمني كبير فيها، داعم لحكومة كابل التي تحاربها "طالبان"، ومن ثم مطالبتها بالسعي لتحرير "كل بلاد المسلمين"، وقتال جميع الأنظمة، ومحاربة المجتمع الدولي بأكمله، يجعل من رؤية القارئين له على أنه "تعجيزي"، وأن من صاغه أراد عدم البيعة أكثر من البيعة، موقفاً يحاجج به.

إلا أن تكرار البنود ذاتها وحرفياً، في نص البيعة الجديدة الذي قدمته "القاعدة" للأمير الحالي لـ"طالبان"، لا يمكن قراءتها خارج سياق معطيات كثيرة تفرض نفسها على تنظيم "القاعدة"، الذي فعل أفضل ما يمكن فعله لمواجهة الموقف الصعب الذي أصبح فيه بخصوص العلاقة مع "طالبان"، وخاصة منذ انتشار نصوص الدستور السياسي والنظام الداخلي للحركة الافغانية، والذي أقرته عقب دخولها العاصمة كابل، وسيطرتها على كامل البلاد العام 1999.

فقبل أن يطلع قارئ العربية على نص هذا الدستور، وكذلك العديد من خطب ورسائل قادة "طالبان" بمن فيهم الملا محمد عمر ذاته، والتي تتحدث بشكل صريح، عن عدم وجود أي طموحات للحركة خارج حدود بلادها، وأن جهادها هدفه تحرير افغانستان، وإقامة حكومة اسلامية مستقلة فيها، تقيم علاقات السلام والتعاون مع الدول المجاورة والمجتمع الدولي، لم يكن الكثيرون من العرب يعرفون الكثير عن توجهات الحركة بهذا الخصوص، وكان أبلغ ما لديهم عن ذلك، السفارات ومكاتب التمثيل التي سبق وأن افتتحتها "طالبان" في بعض الدول الإسلامية، ومنها قطر والسعودية، بالإضافة طبعاً إلى باكستان، أواخر تسعينيات القرن الماضي.

لكن حينها، لم يكن باب التكفير قد فتح واسعاً بعد، ولم يكن منظرو التيار السلفي الجهادي، ولا حتى تنظيم "القاعدة" نفسه، قد أدخلوا في أحكامهم المتأخرة هذه، الجماعات والأنظمة الإسلامية هكذا بإطلاق، كما هو الحال اليوم. بل إن أسامة بن لادن نفسه، كان قد قصر خلافه مع النظام السعودي على مسألة وجود القواعد الأميركية في المملكة.

لكن التحول الكبير الذي أحدثه الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما أتاحه سقوط الدولة هناك من فرصة غير مسبوقة لـ"القاعدة"، لم يؤد فقط إلى التطور التنظيمي، مع اعلان فرع التنظيم "دولة العراق الإسلامية"، بل أدى كذلك إلى نقلة فكرية هائلة، فرضت نفسها بقوة داخل الحركة السلفية الجهادية، وعلى قيادة "القاعدة" نفسها، مع سيطرة تيار أبو بكر ناجي، صاحب نظرية "إدارة التوحش" المعروفة، والجهر تالياً بتكفير الأنظمة، وكذلك الأحزاب والقوى والجماعات الإسلامية، التي لا تكفر هذه الأنظمة.

تطور تساوق معه تنظيم "القاعدة" بشكل بدا أنه انفعالي وغير مخطط، كان كل الهدف منه، المحافظة على وحدة التنظيم والاستفادة من تنامي قوته. لكن ما حدث لاحقاً، أن كل شيء خرج عن سيطرته، مع إعلان تنظيم "الدولة" انفصاله عن "القاعدة" عام 2013، ومن ثم "الخلافة" في حزيران/يونيو 2014.

ولأن تنظيم "الدولة" عمل على تقويض شرعية كل ما عداه في الفضاء الجهادي، وبعد أن بدأ بـ"القاعدة"، مستخدماً كل الأسلحة المتاحة ضدها وبدون سقف، فإن السلاح الذي استخدمه لتقويض صورة ورمزية "طالبان" كان نشر ما في نصوص دستور الحركة وكلمات قادتها، من دعوات "الدولة الوطنية"، والرغبة بعلاقات سلمية مع النظام العالمي.

تجاهلت "طالبان" كعادتها مثل هذه المفاصلات، على اعتبار أنها ليست بالأصل جزءاً من الحقل السلفي الجهادي، بل تنتمي إلى المذهب الحنفي الماتريدي، الذي عليه عموم سنة أفغانستان، والتيار بهذا الخصوص، لكن تنظيم "القاعدة" لم يكن بإمكانه تجاهل ذلك بالمطلق، حتى بعد أن جرب التجاهل فعلاً.

في النهاية، وجد قادة "القاعدة" ومنظريها أنفسهم، أمام مفارقة حقيقية؛ فكيف يكفر التنظيم الأنظمة العربية والإسلامية ويعتبرها مرتدة، ويجرم التعامل معها، بل ويعادي الفصائل والجماعات التي تتعامل وتتحالف معها، في الوقت الذي يبايع بيعة كبرى "أمارة طالبان الإسلامية"، التي تقيم علاقات رسمية مع هذه الأنظمة؟

بل وأكثر من ذلك، كيف تعتبر "القاعدة"، أن الدولة الوطنية والدعوة لها، مخالفة صريحة للإسلام ومشروع الدولة الإسلامية، بينما تتبع الحركة الأفغانية، التي ينص دستورها على أن حدود دولتها لا تتجاوز أفغانستان؟

أسئلة كثيرة على المنوال نفسه واجهتها "القاعدة"، وخسرت الكثير بسبب عدم تقديم إجابات صريحة عليها، أو اتخاذ مواقف واضحة منها، الأمر الذي فرض، على ما يبدو، نقاشات مطولة داخل التنظيم منذ العام 2014، كما تقول بعض المصادر، للخروج من هذا المأزق، إلى الدرجة التي توقع معها الكثيرون أن تتجاهل قيادة التنظيم تجديد البيعة للحركة، بعد الإعلان عن وفاة مؤسسها وزعيمها الراحل الملا محمد عمر، وهو الأمر الذي لم يحدث بالطبع.

لكن ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو لوضع حد للشائعات والأحاديث حول واقع ومستقبل العلاقة بين الطرفين، خاصة مع تصاعد الصوت المنتقد لحركة "طالبان" داخل صفوف "القاعدة"، ووسط التيار السلفي الجهادي الذي لم يلتحق بتنظيم "الدولة"، لكنه لم يتوان من خلال أنصاره والعديد من رموزه، عن التصريح بوجود أخطاء وانحراف لدى الحركة، أو "مفاسد" على حد تعبير الداعية المعروف أبو محمد المقدسي، في العديد من كتاباته.

وعليه، ومع إعلان "طالبان" مقتل زعيمها الثاني الملا أختر منصور، في 22 أيار/مايو 2016، فقد اعتبر المشككون باستمرار علاقة الحركة بالتنظيم، أن في كل ذلك ما يكفي للتأكيد على أن "القاعدة" لن تفوت هذه المرة فرصة فك الارتباط بـ"طالبان".

لكن رداً قوياً أظهره تنظيم "القاعدة" على كل هذه الشكوك والتكهنات، ليس فقط في تجديده البيعة للحركة مرة ثانية، بل و من خلال عنوان التسجيل الصوتي الذي قدم من خلاله زعيم التنظيم أيمن الظواهري البيعة، وحمل اسم "على العهد باقون" الذي لا يبدو أنه كان مجرد اختيار ارتجالي أو استفتاح خطابي عادي.

عنوان فيه الكثير من حمولة الرد على المشككين، وهو بالفعل كذلك، ومعه كان حرياً بأنصار "القاعدة" ومنتسبيها، أن يحتفوا بكل كلمة فيه، باعتباره، كما قالوا تعليقاً على الكلمة-البيعة، يؤكد على وضوح منهج التنظيم من جهة، ووفاء منه للحركة، التي استضافته وحمت قادته، وآثرت أن يسقط حكمها ويهرق دم أبنائها وقادتها، على أن تسلمهم لعدوهم "أميركا"، عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

لكن كل ذلك لا يبدو أنه كان كافياً لوضع حد للأقاويل والشائعات، التي انتقلت هذه المرة إلى الضفة الأخرى من معادلة العلاقة، حيث كشف البعض عن أن قيادة حركة "طالبان"، تجاهلت هذه البيعة، كما تجاهلت بيعة "القاعدة" السابقة للملا أختر منصور، ولم تعلق عليها، بسبب رغبتها في التخفف من عبء هذه العلاقة غير المفيدة لها، والتي لم تكن مفيدة بأي وقت، كما تقول هذه المصادر.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت المصادر نفسها، عن أن الحركة رفضت أو تجاهلت كذلك بيعات وصلتها من تنظيمات وجماعات جهادية أخرى من خارج أفغانستان، بعضها من الهند وباكستان، وبعضها من بلاد عربية أخرى. وهو الأمر الذي نفته بشكل قاطع شخصيات من "القاعدة"، قالت إن الأيام المقبلة ستشهد ما يثبت عكس ذلك، من دون الكشف عن أي تفاصيل، ووسط استمرار صمت حركة "طالبان".