روسيا والصين وإيران: رأسمالية الدولة الكولونيالية

مازن عزي
الإثنين   2016/11/28
تناغم الخطاب: الفاشي لرأسماليات "ما بعد العولمة"، و"مكافحة الإرهاب" لرأسماليات الدول الكولونيالية (أ ف ب)
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مؤخراً، إن حدود روسيا لا نهاية لها. لم يكن بوتين يمزح. الأمر ذاته ينطبق على توسّعية النظام الايراني، والحديث عن حدود إيران الغربية على المتوسط، والحاجة لإقامة قواعد عسكرية بحرية لها في سوريا واليمن. فهل يمكن، في ظل انكماش أوروبا وأميركا، وتوسع روسيا وإيران، إيجاد نموذج لتفسير ما يحدث في المشرق العربي؟

صار واضحاً ان رأسماليات أميركا ومعظم أوروبا تتجه إلى طور انكماشي، يتراجع عن بعض وجوه العولمة، بقيادة اليمين الشعبوي. طور جديد قد يمكن وصفه برأسمالية "ما بعد العولمة"، ويتضمن إعادة النظر في الاتحادات الكبرى، ومراجعة نتائج الانفتاح و"القرية الكونية"، ونكوصاً اقتصادياً، على النمط الثاتشري، عن دولة الرفاه. فالعولمة ربما بلغت ذروتها، وبات الحل بالنسبة لليمين البديل الشعبوي هو العودة إلى الدولة القومية "القوية"، وسط شعارات مثل "لنعد عظماء كما سبق وكنا".

تحميل المهاجرين والمجموعات الثانوية، مسؤولية الانكماش الاقتصادي، هو تعبير خطابي عن أزمة الرأسمالية الراهنة، وهذا يُشكل مادة دسمة لليمين البديل كي يصعد ويسيطر. فرأسماليات "ما بعد العولمة" تعيد انتاج الفاشية، من تمجيد العرق الصافي "الأبيض المسيحي" إلى خطاب الكراهية ضد الآخر. تراجع دول المركز الرأسمالية عن طورها التوسعي، وانكفاؤها عن "نشر الديموقراطية" في أرجاء الأرض، هو نقطة انعطاف في تاريخ رأسمالية المركز، وإن كان طورها المقبل غير محدد المعالم بعد. الواضح أن رأسماليات "ما بعد العولمة"، تنظر إلى الشرق الأوسط كعبء ثقيل، بل إن رموز اليمين الشعبوي أثنوا على دور روسيا في سوريا، ومنهم من رأى في بوتين نموذجاً يستحق الشكر.

في الوقت ذاته، يبدو أن بعض دول الرأسمالية المتأخرة، من رأسماليات الدول ذات التخطيط المركزي، طوّرت مرحلة كولونيالية خاصة بها. ففيما تنسحب أوروبا وأميركا من الشرق الأوسط، تبدو شهية روسيا والصين وإيران لا تُحدّ لملء الفراغ. رأسماليتا "ما بعد العولمة" و"الدولة الكولونيالية"، كنمَطَي إنتاج، تتشابهان اقتصادياً وتختلفان في بنى السيطرة والاقناع، ولا يمنعهما ذلك، من انتاج توافق في حركتيهما. انسحاب أوروبي أميركي وتقدم لروسيا وإيران والصين. لا بل قد يمثل ما يحدث، نوعاً من التمفصل بين النمطين، وتبادلاً للأدوار.

وعلى الرغم من العقوبات الغربية على روسيا وإيران، يبدو التعاون العسكري بين الدولتين متصاعداً بشكل غير مسبوق. فإيران، وبعيداً من مشروعها المذهبي-القومي المُستخدَم للهيمنة، تُطوّرُ ترسانة عسكرية بالاعتماد على الخبرات الصينية والروسية. أسطول إيران البحري، من غواصات وفرقاطات وسفن، ينتشر حتى المحيط الأطلسي. كما أن الصناعة العسكرية الإيرانية، دخلت مرحلة جديدة من الانتعاش مع بدء رفع العقوبات عنها، ما يساعدها في تمويل مشترياتها العسكرية من التكنولوجيا الحديثة، عبر بيع النفط للصين في المقابل.

الصين بدورها أصبحت القوة البحرية الأولى، وصاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ينظر إلى المشرق العربي كخزان طاقة. فالصين أكبر مستورد للنفط في العالم، وبحاجة لحماية خطوط إمدادها منه. ومع اعتماد أميركا المتزايد على نفطها الصخري وعدم اكتراثها بحماية حلفائها في الشرق الأوسط، ترى الصين دورها كبديل من أميركا في المنطقة. وإذا كان "الحزب الاسلامي التركستاني" هو حجة الصين للتدخل عسكرياً وسياسياً في سوريا والمشرق، فهي بذلك تتوافق مع روسيا التي ترى في النظام السوري حليفاً استراتيجياً أمّن لها قاعدة عسكرية متقدمة، ودائمة، في المنطقة. هنا تتقاطع مصالح الصين وروسيا، مع مشروع إيران الطامح إلى مدّ حدودها الغربية إلى المتوسط، والسيطرة على العراق وسوريا ولبنان.

ما يجمع إيران وروسيا والصين، خطابياً، هو "محاربة الإرهاب السنّي" في المشرق العربي، في حين أن تشابهاً كبيراً في نمط الإنتاج الرأسمالي الدولتي، يبدو أكثر جمعاً بينها.

رأسماليات الدول هذه، أنتجت عملية التحديث الصناعي المتأخر، المستعيض بالتصنيع عن الاستيراد، وخاصة في المجال العسكري، من دون الاكتراث بالتعددية السياسية والاقتصادية. تطوير الرأسمالية كنمط إنتاج في تلك الدول، جاء عبر تدخل الدولة بوصفها الرأسمالي الأكبر والأهم في السوق المحلية. الآن، باتت هذه الرأسماليات ترى حاجة لها في التقدم والاستيلاء على أراضٍ جديدة، لحماية قواعدها وخطوط إمدادها. رأسماليات دول تقوم بدور كولونيالي مماثل لذاك الذي قادته أنظمة رأسمالية كفرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى. الفرق بسيط، لكنه جوهري. 

روسيا قد تكون أكثر تمايزاً عن الصين وإيران، بخصوص التعددية الاقتصادية فيها، إلا أن ذلك قد يكون مجرد قشرة خارجية. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تمت عملية "خصخصة" لمؤسسات القطاع العام، اشترى معظمها مديروها العامون أنفسهم، بأسعار منخفضة جداً. العملية ترافقت مع إلزام الدولة الروسية باستمرار دعمها لتلك المؤسسات، التي لم تخرج فعلياً عن منطق العلاقات الزبائنية مع الدولة. كما أن غياب تشريعات واضحة تمنع الاحتكار والمصادرة، جعلت الولاء السياسي للكرملين ضمانة لحماية المؤسسات الخاصة. فعلياً، كبرى شركات القطاع الخاص الروسي، تعمل بانسجام مع قرارات الكرملين. هنا، وكما الحدود الروسية اللامنتهية، كذلك تبدو حدود تدخل الدولة الروسية، داخلياً، صعبة التمييز.

تطوير رأسماليات "ما بعد العولمة" لخطاب فاشي، وصياغة خطاب "مكافحة الارهاب" لرأسماليات الدول الآسيوية الثلاث في طورها الكولونيالي، يدخل حالة من التناغم، مع تمفصل بين نمطَي إنتاجها، وتبادل للأدوار بينها في الشرق الأوسط.

في هذه اللحظة، لا يبدو الخلاف قائماً سوى على التفاصيل بين المجموعتين. وربما لن يكون النزاع المقبل بين غرب وشرق، بل ما بين رأسماليات الدول الكولونيالية؛ الصين وروسيا وإيران، عندما يحين وقت اقتسام مستعمراتها الجديدة.