ترامب "أهون الشرين" لتركيا

عبد القادر عبد اللي
الخميس   2016/11/10
في حزيران افتتح أردوغان، برج ترامب في إسطنبول وكانت مناسبة لانتقاد اسم "ترامب" بسبب عدائه للإسلام. (أ ف ب)
يُروى أن أهل قرية جلبوا زجاجتي شراب لمدبّر القرية الذي يفهم في كل الأمور، وقالوا له: "تذوقهما، وقل لنا أي نوع من الشراب أفضل!". فتح المدبر إحدى الزجاجتين، وما إن أخذ رشفة منها، بصقها فوراً، وهرع إلى الماء يغسل فمه، وهو يشير إلى الزجاجة الأخرى، ويقول: "تلك أفضل، تلك أفضل!". قالوا له: "ولكنك لم تتذوقها يا مدبرنا!"، فقال: "لا يمكن أن يكون هناك أسوأ من هذه التي تذوقتها".

على الرغم من التصريحات الحذرة، والمطمئنّة الصادرة عن الناطقين باسم الحكومة التركية، وأهمهم رئيسها بن علي يلدرم، الذي قال إن "العلاقات التركية-الأميركية تسيرها مؤسسات، ولا تتأثر كثيراً بالأشخاص"، فهناك إشارة إلى أن العلاقات التركية-الأميركية في أسوأ أحوالها، بدليل أن رئيس الحكومة نفسه تابع في تصريحه قائلاً: "نأمل أن يفتح (ترامب) صفحة جديدة في العلاقات التركية-الأميركية". فلو كان هناك ما هو جيد في الصفحة القديمة، لتمنى استمراره على الأقل.

لم تكن العلاقات التركية-الأميركية على هذه الدرجة من السوء في أي وقت مضى. وإذا استعرضنا سياسة الإدارة الأميركية في عهد الديموقراطي باراك أوباما، في المنطقة، وخاصة في فترته الثانية، نجد أنها ليست لصالح تركيا، أو على الأدق تعتبرها الحكومة التركية الحالية ليست لصالح تركيا. ويظهر هذا بجلاء في الملفات كلها، وخاصة في الملفين السوري والعراقي، فالولايات المتحدة تتخذ دائماً الموقف المناهض أو المعاكس لما تريده الحكومة التركية.

وعلى صعيد السياسة الداخلية في تركيا أيضاً، عملت إدارة أوباما على إسقاط حكومة "العدالة والتنمية" بالانتخابات من خلال تقديم الدعم شبه العلني للمعارضة، وعندما فقدت الحكومة الغالبية المؤهلة لتشكيل حكومة وحدها، مارست الإدارة ضغوطاً على الأحزاب الثلاثة المعارضة لتشكل حكومة خارج "العدالة والتنمية"، ولكن جهودها بإسقاط الحكومة بطرق قانونية باءت كلها باءت بالفشل، وانعكس الأمر عليها سلباً، فقد حاز حزب "العدالة والتنمية" على أصوات أكثر مما يحتاج في انتخابات الإعادة. ولعل ردة فعل الشارع على التدخلات الأميركية لعبت دوراً في هذا النجاح.

على الرغم من عدم تصريح أي مسؤول تركي عن دور أميركي محتمل في انقلاب 15 تموز/يوليو العسكري، إلا أن الصحافة الموالية نشرت كثيراً من المواد التي توثق علاقة السفير الأميركي في أنقرة بقادة الانقلاب، ودور القوات الأميركية المتواجدة في إنجيرليك بدعم الانقلابيين. هذا غير وجود المتهم الأول بالعملية الانقلابية؛ فتح الله غولن، في الولايات المتحدة، وتحت رعاية مخابراتها.

لم يبق الأمر في هذه الحدود، فالأوساط الرسمية التركية تتهم الولايات المتحدة أيضاً بالمشاركة بتحريض حزب "العمال الكردستاني" على إشعال الحرب في تركيا، ودعمه، وتنشر صوراً كثيرة للقاءات ممثل "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش" مع قيادات من حزب "العمال الكردستاني" باسم "قوات حماية الشعب".

بمعنى آخر، إن إدارة أوباما كانت الشراب الذي تذوقه المدبر، وقال إنه لا يمكن أن يكون هناك أسوأ منه.

على الرغم من هذا، لم يكن المسؤولون الأتراك وعلى رأسهم رئيس الجمهورية يحسبون حساب وصول ترامب إلى البيت الأبيض، واحداث تغيير في السياسة الأميركية. فقبل أشهر، وتحديداً في حزيران/يونيو، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، برج ترامب في إسطنبول الذي يضم مركز تسوق، وشققاً سكنية، وكانت مناسبة لانتقاد اسم "ترامب" بسبب عدائه للإسلام. ولكن يوم إعلان نتائج الانتخابات الأميركية، والتأكد من نجاح ترامب، أعلن رجب طيب أردوغان، في خطاب له بمناسبة افتتاح معرض "جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين" أنه أخطأ عندما اعترض على الاسم، وقد بنى موقفه على مبدأ أن هذا المرشح يريد أن يطرد المسلمين من أميركا.

في الحقيقة، الصحافة التركية لم تهتم كثيراً بكلمات ترامب إلا في ما يتعلق بتركيا فقط، ولعل أبرز المواقف ذلك الذي أبداه في مقابلة جرت معه إبان انقلاب 15 تموز/يوليو الفاشل في تركيا، وقال فيها إنه لا يرى أن ما حصل في تركيا (الانقلاب العسكري) لعبة من أجل تصفية الخصوم كما يدعي البعض. وأثنى على أردوغان لأنه استطاع أن يحول الأمر لصالحه، ووصفه بأنه موضع ثقة.

في هذه النقطة يمكن أن نجد ترامب أبعد نظراً من أردوغان، فقد مهّد لإقامة علاقات جيدة معه منذ ذلك الوقت، ويمكن التفاهم بينهما في كثير من الملفات.

في المقابل، فإن ترامب مؤيد بشدة للقضية الكردية في تركيا، ولجناح حزب "العمال الكردستاني" في سوريا، وبالتالي لن تختلف سياسته عن سياسة سلفه باراك أوباما، في هذا الموضوع.

لعل عدم اهتمام ترامب بالأسد، وعدم وضع رحيله على جدول أعماله، سيبقي ملف سوريا والأكراد ملفاً خلافياً بين تركيا والولايات المتحدة في العهد الجديد.

ولكن هذا هو الواقع اليوم، فموقف الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما لا يختلف عن موقف ترامب، المتغير الوحيد هو إحتمال ابتعاد ترامب عن محاولات إسقاط حزب "العدالة والتنمية"، ولعل هذا يمنح تركيا فرصة الاستقرار، وإعطاء المزيد من الجهد لبعض الملفات الخارجية.

اليوم هناك أمل كبير في الساحة التركية نتيجة نجاح ترامب، فهو الزجاجة التي لم تفتح، ولم يأسف أحد في هذه الساحة على سقوط الديموقراطيين، بما في ذلك اليسار الذي يعارض الحكومة التركية في كل شيء. ولكن الليرة التركية لم تقل الأمر نفسه، فقد سجلت رقماً قياسياً جديداً في الانخفاض حوالي خمسة قروش إضافية. فمن يا ترى حساساته أدق: الليرة أم الشارع؟