هنا باريس: كلنا غزة

حسين عبد الحسين
الخميس   2014/07/24
من التظاهرة التي خرجت في باريس دعماً لغزة (أ ف ب)

لم يكن المشهد في حديقة نلسون مانديلا، القريبة من متحف اللوفر الشهير في العاصمة الفرنسية يشي بأنها ستتحول إلى ساحة مواجهة. فجأة ظهر من الخواء جمع من المتظاهرين في عمر الشباب وهم ينادون شعارات بالفرنسية دعماً لغزة ويلوحون مزيجاً من الاعلام، معظمها فلسطينية، مع حضور للأعلام الجزائرية والتركية وحتى راية أو اثنتين لتنظيم القاعدة. 

 

اقتربتُ من الجمع لالتقاط بعض الصور، لكن لعلمي أن السلطات الفرنسية كانت حظرت التظاهر، بقيت على مسافة منهم. قلت في نفسي ان بطاقات الاعتماد الصحافية الأميركية قد لا تسعفني في هذه الحالة. لكن ببقائي بعيداً، أثرت ريبة بعض المتظاهرين، فرجال الأمن الفرنسيين بثياب مدنية كانوا في كل مكان، بما في ذلك بين المتظاهرين انفسهم، وكانوا يلتقطون الصور، ربما للاحتفاظ بها في ملفاتهم. 

 

ولأن الأمن الفرنسي، الظاهر والخفي، كان منتشراً، لم تتأخر الشرطة في الحضور، لكن أبواقها سبقتها، ما دفع ببعض المتظاهرين الى تحذير بعضهم البعض. "قل لسفيان انهم جو"، قال احد المشاركين بلهجتهم المحكية. ويبدو ان سفيان هذا من اصحاب السوابق في التظاهر، و أنه من الممكن أن يكون في مأزق اكبر من الآخرين في حال تم القاء القبض عليه. كذلك، أشار تنادي المتظاهرين الى معرفة بعضهم البعض والى وجود شبكة تنظيمية، وإن جزئية، هي أعمق من التظاهر عفوياً. 

 

ومع تعالي ابواق الانذار ووصول قوات مكافحة الشغب، راحت حفنة من الشباب تفرض شعاراتها صياحاً، فصارت هتافات "الله اكبر" و"العزة للاسلام" تغلب على باقي الشعارات. ثم بدأ بالفرار من الجمع نفر من المتظاهرين كان لافتاً تشابه هندامهم: لحى طويلة، شوارب محفوفة، وسراويل اقصر من الكواحل. 

 

ثم انتشرت قوات الأمن الفرنسية وحاصرت الحديقة. المدنيون من الأمنيين الفرنسيين صاروا اكثر ظهوراً، إذ لم تبد عليهم علامات توتر كما العامة، وراحوا يتجولون بين الشرطة بكل ثقة وأمان وهم يراقبون المتظاهرين وتحركاتهم. أما من لم يتمكن من الفرار من المتظاهرين، فاضطر للخروج من الحديقة بالمرور بنقاط التفتيش التي وضعتها الشرطة على المارة وراحت تفتش الحقائب اليدوية.

 

لم يكن واضحاً ما الذي تبحث عنه الشرطة. هذا شاب يرتدي قميصاً كتب عليها بالانكليزية  "انا احب غزة"، مر من دون مساءلة، وذاك شاب اخرجت الشرطة من حقيبته كوفية فلسطينية وأعادتها إليه بلطافة، وتلك شابة تمر جانب الشرطة وهي تلوح بالعلم الفلسطيني، بدون أن يتعرض لها أحد. 

 

الشرطة، بدورها، بدا عليها التوتر، ربما بسبب المواجهات العنيفة مع المتظاهرين في مناطق اخرى، ما حدا بها الى ارسال تعزيزات حتى كادت اعداد الأمنيين تناهز عدد المتظاهرين. 

 

لماذا إذاً اندلعت المواجهات؟ ولماذا تمنع الحكومة الفرنسية، التي تتباهى بأنها اولى الديموقراطيات ومطلقة شعار "حرية، مساواة، اخوة"، تظاهرات سلمية مساندة لغزة على غرار التي سارت في مدن غربية اخرى مثل لندن وشيكاغو الاميركية وغيرها؟

 

سفيان وصحبه يعتقدون ان السبب هو مؤامرة غربية كبيرة وقديمة، تتضمن تحامل الفرنسيين على الاسلام والمسلمين. "انذال، كلاب، يكرهون الاسلام لانهم اعداؤه" قال احد المتظاهرين.

 

من هنا يمكن الاستنتاج أن التظاهرة لم تكن لغزة وحدها، بل كانت لغزة ظاهراً ولمظلومية يشعر بها كثيرون من العرب الفرنسيين، كما البريطانيين والاميركيين باطناً، وان كانت مشكلة الفرنسيين العرب اعمق واعقد منها في الدول الاخرى. وما يؤكد عمق مشكلة الهوية العربية في الغرب كان واضحاً في الكثير من مشاركات هؤلاء عبر صفحات التواصل الاجتماعي، والتي دعت في الغالب إلى قضايا لا ترتبط بغزة كثيراً، من قبيل دعوة البعض لمجابهة الحكومة الفرنسية حول منعها للحجاب في المؤسسات العامة وحظرها النقاب بصورة تامة.

 

وفي الولايات المتحدة، تشابكت النداءات لنصرة فلسطين مع دعوات للقاءات لمنع بعض دوائر الشرطة، مثل في نيويورك، من فرض رقابة لصيقة على العرب والمسلمين ودور عبادتهم وأماكن لقاءاتهم أكثر من المجموعات الأميركية الأخرى. 

 

والريبة والعدائية العربية في دول الغرب تغذي وتتغذى من عداء مشابه للسكان المحليين، فحزب جان ماري لوبين، اليميني المحافظ، تصدر الأصوات الفرنسية في الانتخابات الاوروبية الاخيرة، فيما "حفلة الشاي" الأميركية لا تخفي عداءها للعرب الاميركيين والعرب حول العالم. حتى الرئيس باراك أوباما، اثناء حملته الانتخابية الاولى في العام ٢٠٠٨، تعرض لمساءلة كثيفة حول إن كان مسلماً، وهو أجاب دوماً بالنفي، ولكنه لم يحدث أن أضاف أن لا مشكلة في وصول مسلم إلى الرئاسة الأميركية.

 

غزة، يعتقد كثيرون من العرب والمسلمين في الغرب أن حكوماتهم تظلمها، بالضبط كما تظلمهم، لذا، لم يكن غريباً أن تختلط صيحات "غزة" بهتافات لشؤون غيرها لأن المظلومية، على الأقل حسب ما يعتقد كثيرون من المتظاهرين، مصدرها واحد.