"ما تحت الشعور" الإسلامي

مازن عزي
الخميس   2014/10/30
الغزو السوفيتي ساهم في توحيد المنتفضين، على اختلاف انتماءاتهم العرقية والإثنية، بالرابطة الأعم التي تجمعهم: الإسلام. (غيتي)
قبل أيام، أعلنت القوات الأميركية والبريطانية انهاء عملياتها القتالية في أفغانستان، تمهيداً لانسحابها منتصف العام المقبل. خروج القوات الدولية من أفغانستان اليوم، قد يحيل إلى خروج السوفيات المذّل منها، في العام 1989، حين تركوا البلد فريسة للحروب الأهلية، والبحث المحموم عن الذات.

تدّخل السوفيات لحماية نظام الحكم الموالي لهم في أفغانستان، من الصراعات الداخلية للحزب الشيوعي الأفغاني على السلطة، والتي أزّمتها انتفاضات متوالية للعشائر والقبائل. لكنّ الغزو في أواخر العام 1979، ساهم في توحيد المنتفضين القبليين، على اختلاف انتماءاتهم العرقية والإثنية، لمواجهة السوفيات، بالرابطة الأعم التي تجمعهم: الإسلام. كما أنّ الدعم الغربي للقبائل، في مواجهتها لـ"الخطر الشيوعي"، ساعد في تقوية الرابط الديني بين القبائل، وبعثه. وبعد الانسحاب السوفياتي انقلب حلفاء الأمس القبليين إلى الإحتراب الداخلي، كورثة لبلد مدمرٍ، بلا دولة. وفي هذه الظروف من الفوضى، وجدت حركة طالبان الناشئة، بين أوساط الشباب من قبائل البشتون السنّة، أرضاً خصبة للتمدد، وفرضت رؤيتها للحكم على أسس الشريعة الإسلامية. طالبان أحكمت سيطرتها على البلد، العام 1996، وبدأت من عمقها القبلي-المذهبي، تطل حركة سلفية جهادية، أسسها المهاجرون، ودعيت بـ"القاعدة".

اسقاط الملكيّة في أفغانستان، مطلع السبعينيات، وإقامة نظام حكم نخبوي اشتراكي، ظلّ قشرة رقيقة لم تلامس المجتمع، ولم يتمكن من صنع "الدولة" كمنجز "حداثي". بدوره، الغزو السوفياتي للبلد، عدا أنه لم يتمكن من بعث الحياة في نظام الحكم الشيوعي الهش، كشف مقدار الأزمة بين المجتمع الأفغاني ودولته؛ بين لحظتين تاريخيتين لم تعرفا التقاطع. لكن تلك البقعة المشتعلة، ساهمت أيضاً في رسم شكل "العدو الحضاري" الجديد للغرب بعد انهيار المنظومة الإشتراكية: "الإرهاب".

ذهب صموئيل هنتنغتون، إلى أن الصراع الذي هيمن فترة الحرب الباردة، انتهى لصالح خطوط الصراع الإقليمية، القائمة بين حضارات أساسها الأديان. فاستُبدل الصراع بين الإيديولوجيات أثناء الحرب الباردة، بالحرب على "الإرهاب". إلا أنّ "الإرهاب الإسلامي" كان في أحد وجوهه، حصيلة إثارة سلبية مديدة لمشاعر المجتمعات المسلمة، التي وجدت نفسها عالقة في لحظة تاريخية حرجة، بين بناها التقليدية وأنظمة حكمها المتقادمة المتسلّطة من جهة، و"الحداثة" المفروضة عليها عبر التغيير الخارجي القسري (الغزو) من جهة أخرى. لكن هذه اللحظة من عدم الإتزان الداخلي، أمام صدمة الحداثة المعولمة، مطلع الألفية الثانية، نجحت في إبراز ما يمكن تسميته بـ"ما تحت الشعور الإسلامي"، عبر خضات متلاحقة، زاوجت بين الدوافع "الغرائزية" المغرقة في لاوعي المجتمعات المسلمة، وتعبيراتها السلوكية "العنفية" عن مقدار عجزها في صنع لحظتها الراهنة.

الغزو الأميركي للعراق 2003، فكك "المنجز الحداثي الغربي": الدولة الحديثة، بوصفها "أنا أعلى" قهرية، لطالما قمعت الدوافع الباطنية للداخل العراقي، وشكّلت جزءاً غريباً عنه. الغزو وضع المجتمعات المحلية العراقية أمام لحظة انكشاف: انهيار الدولة البوليسية أمام غزو خارجي، وتهافت وسائلها الدفاعية التقليدية. لحظة مثالية ليطفو "ما تحت الشعور الإسلامي" ويتجلى علانية: عدوانية عنفية، موجهة ضد كل "مختلف".

وكما ترك الغزو السوفياتي لأفغانستان، مجالاً من الفوضى، سمح لطالبان بتعبئته، ولتنظيم القاعدة بالنمو على يمينها. فاليوم، وبعد أكثر من عشرة أعوام على احتلال العراق، تجد التنظيمات السلفية الجهادية، فرصتها السانحة، في احتلال ساحة "الوعي" المشرقية، واستخدام طاقتها "الغريزية" للتدمير. تنظيم "الدولة الإسلامية"، قد يكون أصدق تعبير عن "ما تحت الشعور الإسلامي"، ذي النزعة العدمية، والرغبة في نفي الظرف الراهن، لاستعادة لحظة توازن مجتمعي متخيّلة، رافقت صدر الإسلام. وبهذا المعنى يبدو "الإرهاب الإسلامي"، ظاهرة توضح ما يعتمل من "عجز" تحت سطح وعي المجتمعات المسلمة، يجد فرصته ليطفو كردّ فعل عدواني على ساحة "الوعي الجمعي" بالذات، في ظل حروب التفتيت الجديدة التي يعيشها الشرق الأوسط.