لبنان.. مخيم اللاجئين العظيم

يوسف بزي
الخميس   2024/05/09
يتناسى اللبنانيون الشراكة الفعلية والحاسمة في "المأثرة السورية" (Getty)

على امتداد السنوات القليلة الماضية، "تبرعت" دول لتقديم مئة دولار لكل عسكري لبناني، كي لا يعضه الجوع. وتنافست قيادتا الجيش والأمن الداخلي على مناشدة الدول الصديقة والشقيقة لجلب المساعدات العينية كالوقود والغذاء. ذاك أن ما يسمى "الدولة اللبنانية" انتهت تقريباً بعد المنهبة الكبرى التي اقترفتها العصابة السياسية-المالية، المعروفة والباقية والمستمرة بعون حاميها وبإرادة أغلبية الناخبين الخائفين على "كرامة" طوائفهم.

وعلى هذا المنوال، لم يبق من مورد فعلي لتلك الدولة الشبحية، سوى ما يأتي من عملة صعبة مخصصة للاجئين السوريين (والفلسطينيين)، حين عمد حاكم مصرف لبنان، المتهم بجرائم شتى من غير محاكمة حتى الآن، إلى إلقاء القبض على دولارات تلك المساعدات وصرف ما لا يوازيها إطلاقاً بالليرة اللبنانية لمئات آلاف اللاجئين البؤساء.

وصوناً لـ"كرامة" اللبنانيين أيضاً، وُضعوا بدورهم في خانة المحتاجين والمعوزين تماماً كاللاجئين. وطالبت دولتهم من المجتمع الدولي مساواتهم في تقديم المساعدات والدعم، طمعاً بالحصول على عملة صعبة تغذي خزينة فارغة. وفي الآونة الأخيرة، انضم نحو مئة ألف لبناني جنوبي إلى خانة "النازحين" الذين يحتاجون للمساعدة والإغاثة. وقد يكون مخيفاً أكثر احتمال أن تقع الحرب الواسعة التي لا بد أن تهجّر مئات الآلاف، ما قد يحيل البلاد بأسرها إلى مخيم لاجئين عظيم.

وهذه الدولة التي لا تملك قرار حدودها، انتهجت سياسة شديدة المراوغة والنفاق. فتبنت خطاباً معادياً للاجئين، شعبوياً وتحريضياً موجهاً للداخل وللجمهور من ناحية، وخطاباً استغلالياً وانتهازياً تجاه الخارج، لجمع "التبرعات" وكسب مئات ملايين الدولارات لتغذية وإنعاش منظومة الفساد نفسها.

وفي الحالتين، لا التحريض وحملات الكراهية تحل المشكلة وتخفي اللاجئين وتبددهم، وبالطبع لا أموال المساعدات تكفي وحدها للانتهاء من هذا الوضع الشاذ والخطير.
أما معضلة طوفان اللاجئين، السياسية والحقوقية والاقتصادية، وأغلبها صنيعة الاستباحة المديدة، المسكوت عنها، والشبيهة في بؤسها ونتائجها بـ"وحدة الساحات" وحروبها واقتصادها الأسود.. فهي معضلة متروكة للاستثمار والابتزاز من جانب النظام السوري، أو للاستعطاء والشحاذة والارتشاء من جانب المنظومة السياسية اللبنانية.

هذا، ويتناسى اللبنانيون الشراكة الفعلية والحاسمة في "المأثرة السورية"، وتهجير الملايين كثمن بخس دفاعاً عن بشار الأسد وإسقاطاً لتلك "المؤامرة الكونية". كما يتناسون الشراكة "الاستراتيجية" في اقتصاد التهريب وإدارة المعابر غير الشرعية، واستقدام العمالة الرخيصة جداً.. بالتعاون والتنسيق بين عصابات لبنانية تحظى بغطاء سياسي، والفرقة الرابعة في الجيش السوري، وميليشيات ليس من الضروري تسميتها، مسنودة بفساد يتخلل الإدارات والأجهزة، بما يكرس نظاماً اقتصادياً مافياوياً عابراً للدولتين ومتحكماً بهما، عماده الرئيسي تحويل سكان البلدين من "مواطنين" إلى هوام ولاجئين ومعدمين يتقاتلون طائفياً ومذهبياً أو يتنافسون على كرتونة مساعدات أو يتناتشون حفنة دولارات أو يتصارعون على فرصة عمل أو ينخرطون في ميليشيا ما أو يتذللون لزعيم ونائب أو يألفون عصابات سرقة ونشل وترويج حبوب مخدرات الكبتاغون، التي هي من فخر الصناعات المحلية التي تغزو العالم.

والناظر إلى أحوال لبنان وسوريا ودول أخرى مشابهة، يراها بعين المجتمع الدولي، بوصفها "دولاً فاشلة" ومارقة وفاسدة، ومجتمعات محطمة ومتخلفة، واقتصادات مفلسة. وهذا النوع من الدول يتكاثر، ويستجيب لها العالم اليوم بشبكة واسعة من المنظمات الإغاثية وبرامج المساعدات لـ"تسكينها" وتخفيف معاناتها من غير معالجة، كحالة ميؤوس من إصلاحها، والاكتفاء بإبعاد خطرها وكبح عدواها قدر المستطاع.

ولذا، كانت "مبادرة" الاتحاد الأوروبي الأخيرة تجاه لبنان، التي يمكن اختصارها ببندين أساسيين. الأول، رشوة المليار دولار على امتداد ثلاث سنوات تمنح لإدارات وأجهزة الدولة لتقوم بواجبها كشرطي بحري يصد اللاجئين عن أوروبا. والثاني، فتح باب العمل "الموسمي" لليد العاملة اللبنانية في بعض الدول الأوروبية كمصدر رزق يخفف العطالة والبطالة والفقر المستشري.

وعليه، يكون الاتحاد الأوروبي قد نظّم إدارة مخيم اللاجئين العظيم الذي كان اسمه لبنان.