بين سيلفيا حاييم وجوزيف مسعد

سلام الكواكبي
الإثنين   2024/05/06
عبد الرحمن الكواكبي

وقعت على مقابلة قناة الجزيرة مع الأستاذ جوزيف مسعد استاذ السياسة والفكر العربي في جامعة كولومبيا الأميركية، فوقعت عن الكرسي الذي تحمّل وزني خلال الماضي من السنوات. ولقد حدث ذلك بعد أن شاهدت مقطعًا من المقابلة إيّاها، فيه مزيجٌ من الثقة الهلامية المختلطة بمسلمّات تاريخية لدى المتحدث عينه فقط، تطرّق خلاله إلى أعلام النهضة في القرن التاسع عشر، معتبرًا بعجالة ـ إن أردنا الاختصار وحرمانكم من التكرار الممل لدى بائعي الكلام ـ أنهم "عملاء" للدولة البريطانية التي أرادت من خلالهم بث "سمّ" الليبرالية في المجتمعات الإسلامية. وقد استفاض الأستاذ، الذي يرى نفسه، ويُشجعه كثيرون في رؤياه، بأنه خليفة الراحل إدوارد سعيد، ليقول بأن الغرب سعى لكي يكون خليفة المسلمين عربيًا للقضاء على الدولة العثمانية (...). كما أن هذا الغرب (وكما يقول أستاذ فهمٍ آخر: ما هو تعريف الغرب؟) ذاته، هو الذي أراد تحويل الخلافة إلى النموذج البابوي الذي يكتفي بكونه مرجعية روحية لا تحكم، ويتم بالتالي إضعاف الإمبراطورية العثمانية (التي كانت تحتضر بالمناسبة: موجودة في ويكيبيديا يا أستاذ). يا لها من مؤامرة يا قوم، هلّموا (...).

وحتى تكتمل الفكرة الجهبذية التي فاتت على الكثير من العباقرة، فقد تبين للأستاذ مسعد، وأخيرا، أن قاسم أمين عميلٌ مفضوح للإمبريالية النيو ليبرالية البريطانية، حينما قام بتأدية واجب وظيفي كلفه به اللورد كرومر (هل دفع الأجرة؟) وقد تمثّل بتحرير كتابه الرائع "تحرير المرأة". والرائع العرضية هنا ليست في حقل السخرية كما الكثير مما سبق، بل هي توصيف حقيقي للكتاب، وطبعًا فهذا رأيٌ شخصي لا أفرضه على أحد، وربما، لأنني لست أستاذ جامعة في كولومبيا.

ولقد ذكّرني الحوار بين الأستاذ علي الظفيري المُحاوِر، والأستاذ جوزيف مسعد المُحَاوَر، بعبارة حلبية ذات بعد نفسي عميق، تقول عمّن ماثلهما في حوارهما بأنه (من بيت فستق). وهي عبارة توصّف الحوار بين شخصين ويكون مليئًا بالتأكيد والتكرير والثناء والاستزادة، وصولاً للمزايدة، على كل عبارة يتفوه بها الآخر مهما ضعفت أو هزُلت. وبالتالي، فلا يوجد سؤال نقدي ولا طلب توضيح، إلا ربما لتأكيد المؤكد المُنزَل الذي لا نقاش فيه.

وفي مقطع آخر لم أحتمل الاستمرار بالمتابعة بعده، اكتشفت، وكما اكتشف معي السيدات والسادة المتفرجين، بأن محمد عبده وجمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي كانوا عملاء للبريطانيين أيضًا لأنهم قاموا، ومن خلال كتاباتهم، بالدعوة إلى إصلاح الفكر الديني، وكما الممارسة المشوّهة الخارجة عن النصوص والمتبنيّة لبدعٍ أدّت لتحكيم الجهل على العلم والاستبداد على الحرية والخضوع على الأنفة. وكدت هنا، وبعد ان تنازلت عن نصف مقعدي وصار نصفي في الفراغ الفيزيائي تتلاعب به توزيعات الوزن غير العادلة، أن أنصرف لقراءة ميكي ماوس او تان تان، للخروج من حالة الصدمة الثقافية والذهنية. فلا شك لدي أبدًا بمستوى ذكاء ووعي المتحاورين، ولكن محتوى كلامهما أصابني باختلالٍ. ولم يطل هذا الاختلال ليتحول الى سقوطٍ حرٍّ على الأرض عندما هرف الأستاذ مسعد بما "اكتشفته" وحدها الكاتبة الصهيونية العراقية سيلفيا حاييم في خمسينات القرن المنصرم، والذي نقضه كل المفكرين من عربٍ وعجمٍ وحتى، من أولاد البيت الصهيوني ذاته. ماذا اكتشفت حاييم وضخّمه دون تأكد جوزيف مسعد؟

لقد أشارت في أطروحتها إلى أن الكواكبي تأثر في الكثير من محتويات كتابه "طبائع الاستبداد" من الإيطالي "فيتوريو الفييري". ولكن استاذنا في كولومبيا لم يكتف بالإشارة الى هذا التأثر، بل وأضاف عليه من لدنه بأن الكواكبي نسخ "الفييري" تماماً. يعني أنه على يمين الأستاذة حاييم التي ارادت من خلال اطروحتها، ولأسباب عقائدية ربما، أن تُخفف من إنجاز أحد روّاد النهضة العربية. ومع ذلك، فهي لم تتحدث عن أي نسخٍ يذكر، بل عن تأثّر فحسب. وكأن الحديث عن الاستبداد وتوصيفه لا يمكن له أن يتقارب بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص. ومع ذلك، وليس هنا المجال للتفنيد وللتفصيل، فالكواكبي لم يتكلم سوى العربية والتركية وقليلا من الفارسية. وقد كان الكواكبي قد أشار في متن نصّه وفي مراجعه الى "الفييري" وخصوصًا في تحليله للاستبداد. وكان قد تعرف الى مقتطفات من كتاباته من خلال مخالطته لعائلات إيطالية مقيمة في حلب ، ساعدته من خلال تجارتها على ركوب سفنها والابحار باتجاه جنوب البحر الأحمر. كما وقد تعرّف على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية واستساغها في صالوناتها الحلبية. كما أنه واضح، وحتى للقارئ المبتدئ، بأن نصوص الكواكبي تُحاكي الشرق والشرقيين بعيدًا جدًا عن نصوص "الفييري". بل ويمكن القول بأن الكواكبي تأثّر أكثر بالفرنسي "إتيين دو لا بويسي" من المذكور المحترم، وربما قد فاتت الأستاذ مسعد هذه، فليضيفها إلى ذخيرته الفكرية والتي تُعجب الكثيرين من المؤمنين بنظريات المؤامرة وبالاسلاموفيليا التي تضاهي في خفّـتها الفكرية وفي سلبيتها الإسلاموفوبيا.

منذ فترة بعيدة، اتحفني أحدهم بشريط مصور لأستاذ لغة عربية جاهلي من حلب يتحدث خلاله عن الكواكبي من بعدٍ دينيٍ متطرّف، متهمًا إياه بركوب البحر على متن سفينة حربية إيطالية والسفر إلى الفاتيكان لاستنساخ التجربة البابوية (...). ضحكت حينها ملء الأشداق وتألمت لضياع المادة الدماغية لدى المتحدث إياه. أما اليوم، فأستاذ كولومبيا هو "مُعلّم" يتلقف العشرات، بل المئات من الطلبة "علمه" ويقينه. وأتمنى ان يُـتاح لي الوقت وضع دراسة تفصيلية تُفكّك الخطاب التشكيكي الهرم منه والمُـتَجَدِّد. وعلى الرغم بأن التعلم في الكبر كالرمي بالحجر، ولكنه مفيد رغم الألم، والله أعلم.